الخواء الشامل

بعد استسلامه المذل من دون قيد أو شرط العام 1991 في خيمة صفوان؛ خضع النظام المباد الى مشيئة لجان التفتيش الدولية، والتي لم تبق مكانا عاماً أو خاصاً إلا وعبثت به، بحثاً عن مخابئ أسلحة الدمار الشامل، جولات واسعة ومكثفة لم تفلح بالعثور على ما جاءت من أجله. صفحات الإذلال والحصار المرير والطويل الذي رافقها، مع بقاء سلطة القمع والاستبداد، أوجدت أوضاعا اجتماعية ونفسية وقيمية، تعرفنا عليها بوضوح بعد زوال النظام المباد، وتلقف المنفيون السابقون وتنظيماتهم الهرمة لأسلابه، حيث اكتشفنا أمراً لا يقل فتكاً عما كانت تبحث عنه تلك الفرق الدولية؛ ألا وهو (الخواء الشامل). لم يسلم حقل أو مجال مادياً كان أم معنوياً من هذا الوباء الفتاك، وهذا ما يمكن التعرف عليه بيسر، في كل هذا العجز والهوان الذي نعيشه جميعاً (أفراداً وجماعات) ولا سيما في المجال الفكري والثقافي، والذي يعكس بوضوح حالة المجتمعات (حيويتها أو انحطاطها). لنقف قليلاً عند ما نضح من ردود أفعال تجاه كل هذه الكوارث التي تناثرت علينا بعد “التغيير” لن نكون منصفين إن قلنا عنها أنها بائسة. بالتأكيد هي أكثر من ذلك بما لا يقاس، حيث يتواصل مسلسل الموت والدمار وحلقاته المتتالية، من دون أن يصدر عنا غير المزيد من الهلوسات والهرولات صوب السراب الموعود.
من يقف خلف كل هذا الخواء والعجز عن مواجهة كل هذا الضيم العضال؟
لقد أشرنا الى برنامج الدمار الشامل الذي نفذته “جمهورية الخوف” عندما قضت على كل أشكال التعددية والتنوع لدينا، لذلك لم نتمكن من امتلاك معارضة حقيقية (الضد النوعي) ولا أحزاب سياسية بالمعنى الحديث للحزب، ولا نقابات ومنظمات مهنية كما عرفناها قبل تعرضنا لذلك الوباء (الخواء). لذلك أخفقنا في مهمة بناء الدولة، بعد أن شرعت الأبواب لكل من هب ودب للتسلل الى المفاصل الحيوية لما تبقى من أنقاض الدولة والمجتمع ومؤسساتهما. مثل هذه المناخات فرضت معاييرها على كل مناحي الحياة لدينا، وهي تعزز مواقعها ونفوذها عبر ضخ المزيد من “الوعي الزائف” الذي يمدهم بكل ما يحتاجونه للتمدد والبقاء. وهنا نكتشف حقيقة الدور الذي تمارسه أعداد غير قليلة من المنتسبين لنادي (الانتلجينسيا) في التماهي مع هذه الأشكال من “الوعي الزائف” الذي يعيد تدوير البضائع النافقة نفسها، وتدفع الجموع لمواصلة نهج نهشها لبعضها البعض الآخر، عبر المزيد من التمترس خلف “هوياتها القاتلة” وما ينضح عنها من سموم كراهة الآخر المختلف.
يمكننا تلمس هذا الخواء في كل هذا الفراغ والانقطاع والتشرنق الذي لم ينجو منه أحد، حيث تتواصل الحملات الممنهجة لنسف آخر ما تبقى من جسور وممرات بين سكان هذا الوطن القديم، وتصفية كل ما له صلة بالمشروع الوطني والحضاري الجامع والمنحاز لكل ماهو مشرق وخلاق وجميل لدى شعوب هذا الوطن المنكوب. هكذا نجد أنفسنا وسط شروط حياة واهتمامات واصطفافات لا يمكن أن تقدم أي بدائل (بيه خير) مهما ادعت أو تقمصت من عناوين وتسميات رائجة، لا شيء سوى المزيد من الحرائق والحروب وما يتبعها من صفقات بين حيتان هذا الخواء الممتد من الفاو لزاخو..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة