من خلال تتبع أبرز محطات تأريخنا القديم والحديث، وما جرى على تضاريس هذا الوطن القديم، مع شتى القوافل والجماعات والعصابات، والتي شكلت الدول والإمارات والإقطاعيات السياسية والاجتماعية، وصولاً الى حقبة الفتح الديمقراطي المبين ربيع العام 2003 عندما استأصل لنا المشرط الخارجي أحد أبشع الأورام “جمهورية الخوف” والذي مثل كل ذلك التأريخ من العبودية والانتهاكات والإذلال، وصولاً الى السكان الجدد للمنطقة الخضراء؛ نكتشف حقيقة لم يلتفت لها الكثير منا وسط هذه التخمة من ادعاءات التقوى والفضيلة وبقية أساطير “خير أمة” ألا وهي أننا وبما يقرّب من الإجماع الوطني؛ لا مشكلة لدينا مع اللصوص..! ليس هذا وحسب، بل أن مناهجنا الدراسية ومنابرنا المتعددة الوظائف والأشكال وما يتجحفل معها من وسائل إعلام تقليدية أو إلكترونية، تحرص على تبجيل أباطرة اللصوصية على مر التأريخ، من دون وجع قلب أو عقل أو ضمير. مثل هذه الموروثات الضارة وجدت بـ (الاقتصاد الريعي) وغنائم النفط والغاز وبقية الثروات مجهولة المالك، بيئة ملائمة لإنتاج وتخصيب نوع من سلالات الحرامية واللصوص لا حدود لشراهتهم المنفلتة، وهذا ما جربناه مع حثالة المجتمعات التي بسطت هيمنتها المطلقة على العراق، في وقت أتاحت فيه الأوضاع الدولية، الفرص لتقدم غير القليل مما كان يعرف بالدول النامية، لكن بهمة الجيل الجديد من لصوص الستينيات والسبعينيات، قفز العراق الى عصر القادسيات والذي انتهى بنا الى بيروسترويكا من نوع آخر؛ أعادت استرداد الفردوس المفقود أي الخلافة والتي تحققت على يد البغدادي أبو بكر وصحبه الميامين..!
أما إن شئنا اقتفاء أثر هذه المنظومة من القيم والموروثات، والتي لا تقل فتكاً عن الأسلحة التي بددت لجان التفتيش الدولية وقتها وجهدها عبئاً في البحث عنها (أسلحة الدمار الشامل)؛ فسنكتشف ما يشيب له الرأس، في حجم التلوث الجمعي الذي أحدثته، حيث نمط إنتاج الثروات المادية والروحية، مثقل بكل ما هو طارد للكفاءة والنزاهة والابتكار والإبداع. بعد أن سحقت الحروب العبثية قوى الإنتاج الصناعي والزراعي وما رافقها من سحق للمهن لم يستثن التقليدية منها لصالح العسكرة الشاملة للدولة والمجتمع، والتي لم تجد من يردعها في ظل النظام الجديد “الديمقراطي” بعد أن وجدت الكتل المتنفذة فيه، كل ما تحتاجه لبسط هيمنتها وسلطة حيتانها السمان.
لم يعد سراً حجم الديون الجديدة التي اقترضتها الحكومة العراقية، والتي لن تتوقف قريباً، ما دمنا حتى هذه اللحظة لا نجد مشكلة لدينا (رسمياً وشعبياً) مع اللصوص من شتى “المكونات”. وهي لن تتوقف مع هذا الجيش العرمرم من الموظفين وأعدادهم المتزايدة والمتناغمة وعشق تلك الكتل لصناديق الاقتراع ومستلزمات اللعبة الديمقراطية. نظام العمل هذا ومعاييره الشاذة، يجعلنا جميعاً ننضم لنادي اللصوص، شئنا أم أبينا، ومن يشك في ذلك ليدقق بما يقبضه من أجور أو مرتبات، لقاء العمل الذي يقوم به لصالح الدولة، هل يستحق ذلك فعلاً، أم هو نهب شرعي لخزائن (بيت المال) الموشك على إعلان إفلاسه قريباً. مع مثل هذه الموروثات والتقاليد والشروط ونمط الحياة والعلاقات غير السوية، هل بمقدورنا حقاً الانضمام لمواجهة جدية مع هذا الوباء العضال (اللصوصية). شخصياً، ليس لدي أكثر مما قاله النواب بتصرف (إني في شك من الفاو لزاخو)..
جمال جصاني
لا مشكلة لدينا مع اللصوص
التعليقات مغلقة