فقدان القدرة على الصدق

أن يفقد المرء قدرته على النطق جرّاء صدمة أو مرض ما، هو أمر مفهوم ويحدث مع غير القليل من الحالات التي يتعرض لها البشر فيما يتاح لهم من فرص العيش؛ لكن أن يفقد الفرد أو الجماعة القدرة على الصدق، يبقى أمراً غير مألوف ومثيراً للاستغراب في غالب الأحيان. لكن الوقائع والتجربة تؤكد وجود مثل هذه الحالات الفردية والجمعية، لا سيما عند المجتمعات والفئات التي تعرضت لظلم طويل ممزوج بعمليات مسخ مبرمجة وقاسية. ومن سوء حظنا ان تكون مضاربنا هي الحاضن الأساس لهذا الوباء في عصرنا الحالي، بعد قرون من الاغتراب عمّا يحصل في هذا العالم الذي حولته قيم الحرية والصدق والعقلانية الى قرية صغيرة ومتراصة. أكثر من ألف عام من العبودية والخنوع، أسست ورسّخت بنية وشبكة هائلة للأكاذيب والزيف المتناغم وقهر إرادة ووجدان وعقل الإنسان. زوال مثل ذلك الإرث المسكون بالعداء لكل من تسوّل له نفسه بالتسلل الى حيث الفضول المعرفي و”الجرأة على استعمال العقل”؛ ليس بالأمر الهيّن، وهذا ما برهنته المحطات المريرة والهزائم القاسية التي رصعت جبهة تأريخنا الحديث.
ما نضح من عنفوان في السير عكس نواميس الحياة، وإتاحة الفرصة لمؤمياءات الماضي كي تسترد فتنتها وسطوتها، يعكس الحالة المأساوية التي انحدرنا اليها جرّاء اغترابنا الطويل عن قيم الصدق واستعمال العقل. ما نشاهده اليوم من عجز عن مواكبة التطور السريع للحياة، هو تجسيد لهذا الخلل البنيوي، والذي نادراً ما يلتفت اليه (فقدان القدرة على الصدق) لذلك نصطدم دائما بمشاهد مطاردة ومحاصرة كل من تسول له نفسه وعقله بالتقرب من ذلك الكم الهائل من المحضورات الموضوعة أساساً لأجل إخضاع الإنسان وتسخيره لغاياتهم الضيقة، لا سيما السلالات المتتالية من الذين كلفوا أنفسهم بمهمات الدفاع عن الله وسكان السماء. بتلفيق تهمة “أعداء الله” وتحريض وتجييش الجموع المغيبة، كما جرى في أوروبا القرون الوسطى (زمن محاكم التفتيش).
لا يحتاج المرء الى ذكاء خارق كي يعرف حقيقة أن الله لا يحتاج إمكاناتنا البائسة كي تسخّر للدفاع عنه. وهذا ما أقرته الأمم والدول التي وصلت لسن التكليف الحضاري، تحت ضغط من الثورات المتتالية في شتى المجالات المادية والقيمية، إذ أكرمت الشرائع الوضعية ومدونات الحقوق والحريات؛ الكائن الذي سعت السماء الى تكريمه. إن ظهور داعش وغيرها من العصابات التي تدعي الدفاع عن حدود الله على الأرض؛ ماهو إلا نتاج لكل ذلك الاغتراب والصمت الطويل عن كل ذلك الإرث من الجرائم والانتهاكات، وهذا ما نضح عن سلسلة الاغتيالات والحملات الظالمة التي تعرّض لها ألمع شخصيات تأريخنا الحديث؛ مثل الشيخ علي عبد الرازق وطه حسين ونجيب محفوط وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد الى السودان ومحمود أحمد طه الى العراق وبواكير فتاوى التكفير زمن الجمهورية الأولى الى لبنان الذي تسللت الى أفضل وأشجع عقوله كواتم الصوت لتغتال حسين مروة ومهدي عامل وبقية القافلة المتوهجة من حاملي مشعل العقلانية والتنوير. التهاون أمام برامج إخراس الأصوات الحرة والشجاعة ومرورها من دون أي مواجهة أو حساب؛ هو من يقف خلف كل هذا النحس العضال المرافق لنا منذ زمن بعيد، والذي أعاد إنتاج سلطة السفلة والانحطاط والتي لن تكون داعش محطته الأخيرة..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة