محيي المسعودي
لا يمكن الحديث عن ثقافة الطفل في أي مجتمع دون تشكّل رؤية واضحة ومرنة ومدروسة لدى المعنيين بهذه الثقافة. رؤية تحدد خصائص وشكل ومضمون ثقافة الطفل، وترسم الأهداف المُراد تحقيقها, من خلال الخطط والبرامج وأدوات التنفيذ ووسائل الاتصال والرقابة والتقويم والتقييم , حتى الوصول الى النتائج المستهدفة, ومن ثَمّ وضع الخطط والبرامج الكفيلة باستدامة وتطوير هذه الثقافة وضمان موائمتها لخصوصية المجتمع وللتغيرات والمتغيرات التي تحصل داخل ذلك المجتمع, أو التي تحدثها فيه, المؤثرات والمتغيرات الخارجية, او مؤثرات اخرى , كالبيئة والظروف الاقتصادية والعلمية والاجتماعية والسياسية وغيرها . هذه هي الثقافة العامة الموجَهة للطفل . ولكن, هناك ثقافة موجَهة وموجِهة, تستهدف تنشئة الطفل باتجاه ما, للمجتمع, كالتوجه الاشتراكي او الرأسمالي او الديني او القومي او السلطوي او الديمقراطي او غير ذلك . في العراق ” مثلا” تلقى المجتمع تغييرات هائلة على المستويات كافة, حتى باتت الثقافة والمجتمع في حرج كبير بل, في مأزق حقيقي حاد نتيجة توجه المجتمع العراقي نحو النظام الديمقراطي . ما يستدعي إعادة تشكيل الثقافة العراقية برمتها ومن ضمنها ثقافة الطفل. فأية ثقافة يريدها العراقيون لأطفالهم !! ؟؟
فعلى مستوى الحقوق والحريات هم إزاء اتفاقية حقوق الطفل العالمية التي وقّع عليها العراق والتي تتطلب منهم توفير حقوق وحريات الطفل التي نصت عليها الاتفاقية الدولية والتي يتعارض قسم كبير منها مع الموروث الاجتماعي والديني والواقع الاقتصادي. والعراق اليوم أيضا، ازاء نهج ديمقراطي “رأسمالي” , يُوجب تنشئة الطفل وفق هذا النهج, لكي يكون الطفل مستعدا لتقبله والتعامل معه بإيجابية تمكنه من الاستمرار بالعطاء والتقدم والإبداع والتطوير . ولكن هذا التوجه يواجه ثقافة متجذرة لا تقبله ولا تريده للأطفال في حاضرهم ولا في مستقبلهم، وهي ثقافة كامنة في أعماق النفوس وفي مفاصل حياة المجتمع ونشاطاته وممارساته الدينية والسياسية والاقتصادية وموروثه وتاريخه. ويواجه العراقيون أيضا تحديات أكبر في مدى قدرتهم على حماية الطفل من الكم الهائل من المنتجات التجارية الربحية الضارة التي تستهدف أطفالهم، وتعتمد على وسائل اتصال عالية القدرة والتأثير ولا قدرة لأحد على حجبها كالتلفزيونات الفضائية والإذاعات والانترنت – السوشيال ميديا – والمجلات والأشرطة وغيرها ناهيك عن غزو الثقافات الأخرى التي تصلنا بوسائل الاتصال الحديثة, والتي تتعارض مع الثقافة التي يريدها العراقيون لأطفالهم . ولكي نتعرف على ثقافة الطفل صار لزاما علينا معرفة من هو الطفل !؟
وقبل الحديث عن ثقافة الطفل كـ – محتوى وشكل وخطط وبرامج ونتائج وجودة وجدوى – وقبل الحديث عن أدوات الاتصال المتعددة ما بين الطفل ” مستهلك الثقافة” وبين مُنتِج الثقافة ( افراد, مؤسسات , مجتمعات ) قبل الحديث عن كل هذا علينا تعريف “الطفل” . إذ يختلف الكثيرون على تعريفه من حيث مراحل العمر وسن البلوغ والقدرات الذاتية, وتدخل في هذا الاختلاف البيئة والمعتقدات الدينية والاجتماعية والظروف الاقتصادية والسياسية والدراسات العلمية والبيئة, ولكن, الامم المتحدة تعرف الطفل بانه :(كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة. ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه) وفي حديثنا هذا سوف نعتمد تعريف الامم المتحدة , لأنه الاكثر قبولا وشيوعا في الاوساط الرسمية وغير الرسمية وفي دول العالم كافة تقريبا . وكما لم يُتفق عالميا على تعريف محدد للثقافة بشكل عام, لم يُتفق أيضا على تعريف محدد لثقافة الطفل من حيث نوع المنتَج الثقافي وشكله ومضامينه ومصادره , ولكننا نستطيع تمييز وتحديد بعض أنواع ومضامين ثقافة الطفل وأشكالها حسب نوع المنتج الثقافي – كالقصة والشعر والمسرحية والاغنية والسيناريو والرسم وغيره من الطرائف والحكم والامثال و”الفوازير” – ناهيك عن التقاليد والعقائد والسلوكيات الاجتماعية بشكل عام – هذه أشهر مصادر موارد ثقافة الطفل . وتتميز مضامينها عن مضامين وأشكال مثيلاتها في ثقافة الكبار. إذ تحكم مضامين ثقافة الطفل بشكل عام ” الانقرائية أو الاستيعابية أو التوائمية ” والأخيرة هي الأقرب للدقة لأنها تتوافق مع المبدأ القائل أن الطفل إنسان يختلف في خصوصيته التكوينية عن الكبار، فلا يمكن أن نعد أي منتج ثقافي – ثقافة طفل – ما لم يقع ضمن مساحة استيعاب الطفل له أو ملائمته لخصوصية كينونته, وذلك لكي تتحقق النتائج والاهداف التي كُتب أو قُدم من أجلها هذا المنتج . وعليه يمكن القول بأن ثقافة الطفل هي إحدى الثقافات الأساسية في المجتمع، وإن كانت تنفرد بمجموعة من الخصائص والسمات العامة، وتشترك في مجموعة أخرى مع ثقافة الكبار. ومادام الأطفال ليسوا مجرد – راشدين صغار- بل لديهم قدرات عقلية وجسمية ونفسية واجتماعية ولغوية خاصة بهم في عملية الإدراك والتخيل والتفكير، ولهم أنماط سلوكية مميزة ، وإنهم يحسون ويدركون ويتخيلون ويفكرون في دائرة ليست مجرد دائرة مصغرة عن تلك التي يحس ويدرك ويتخيل ويفكر فيها الراشدون، لذا فإن ثقافة الأطفال ليست مجرد تبسيط أو تصغير للثقافة العامة في المجتمع ، بل هي ذات خصوصية في كل عناصرها وانتظامها البنائي مع إن ثقافة الطفل عادة ما تكون منتج من الكبار موجه للصغار. وهذا ما تُظهر جانبا منه العملية التعليمية والتربوية في المدرسة والأسرة والمجتمع .
يجب أن يكون محتوى ثقافة الطفل رافدا يصب في تحقيق الأهداف المرسومة له وعليه يفترض أن يكون متوائما ومتكاملا مع توجه البلاد العام, في الميدان السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعراق بلد يحث الخطى نحو إقامة مجتمع ديمقراطي متحضر يسوده العدل والمساواة, وعليه صار لزاما على المعنيين بثقافة الطفل تضمين هذه الثقافة العناصر الأساسية للديمقراطية والتحضر وغرس القيم العليا في الطفل حتى ينشأ ولديه قاعدة ثقافية تصبح سلوكا عند بلوغه سن الرشد وممارسته لحياته الطبيعية أو حين توليه وظائف عامة في إدارة شؤون الدولة. هذا مع الاحتفاظ بالقيم الموروثة التي لا تتعارض مع النظام الجديد، أو مع تلك القيم التي تعزز هذه النظام وتنزع عليه خصوصية المجتمع العراقي. ويجب تخليص ثقافة الطفل العراقي من الإرث الكبير الذي تركته العصور المنصرمة في كافة الميادين ما عدى ذلك الإرث النافع أو الذي يعزز الروح الوطنية والانتماء لهذا البلد وهذه الامة دون تعصب أو غلو أو عنصرية، ودون اغفال الحقوق المسلوبة من العراقيين وشعوب هذه الامة أو التهديدات التي تواجههم وضرورة استبدال مفهوم “صراع الحضارات بحوار الحضارات وتكاملها” . وهذه الحال تتطلب اعادة النظر بالمنتج الثقافي الهائل والمتراكم الذي غالبا ما يكون مصدرا لأدب الطفل. ويجب التركيز على عطاء وفكر واجتهاد الفرد بغض النظر عن أصوله ومرتبته الاجتماعية أو الدينية. وإشاعة الثقة بأن الناس متساوون في القيمة الانسانية والحقوق والواجبات، وامّا القدرات الابداعية والتميز فمنوطان باجتهاد الفرد وجهده واصراره على تحقيق ما يريده. وينبغي التركيز على مبدأ الانحياز الى جانب الخير مقابل الشر في أي صراع , وزرع الثقة بأن الخير في نهاية المطاف هو المنتصر. ولن يصل محتوى ثقافة الطفل دون وجود أدوات ووسائل اتصال فاعلة. وإذا كان المحتوى هو غاية ومركز ثقافة الطفل وعمودها الفقري، وبدونه ليست هناك ثقافة طفل، بات من الضروري أن يكون هذا المحتوى ذا قيمة عالية – في المضمون والشكل – ومستوفيا للشروط الفنية الإنتاجية . وإذا افترضنا أن المحتوى الثقافي المنتج عال الجودة. يبقى أيضا بلا جدوى إذا لم يصل للطفل ويستهلكه، ولن يصل هذا المنتِج الى الطفل ما لم يتضمن تشويقا وإثارة، ليتنافس مع الإنتاج العالمي بهذا الخصوص. وهنا تتعرض ثقافة الطفل الى تحدٍ خطير جدا، اذ غالبا ما تطغى الاثارة والتشويق على الرسالة “المضمون” وتهمشها وتشوهها فيسقط المنتج الثقافي في فخ المتعة الخالية من الفائدة، بل تذهب المتعة بالمنتَج غالبا الى حالات ضارة بثقافة الطفل. فتتحول الشجاعة ” مثلا” الى العنف والجريمة، والذكاء الى المكر والخديعة، والمحبة والتسامح الى الضعف. والثقة الى الغفلة. وعليه تصبح عملية انتاج المحتوى عملية معقدة جدا ولن تنجح دون أن يقوم بها أشخاص مبدعون متخصصون، قادرون على انتاج الأفضل ويستطيعون معرفة نتائجه وتأثيراته على الطفل لاحقا. والأهم أنهم قادرون على إدارة عملية الإنتاج والتسويق، بقدرات عالية تسمح لمنتَجهم أن يحقق الأهداف التي اُنتج من أجلها. هذا على افتراض أن ثقافة الطفل منتَجة من قبل الكبار وموجهة الى الصغار.