دارين زكريا
منطقة لا علاقة لها بالمكان 7- 7- 2020
كان البابُ موارياً لسوأته، لم تكنْ الرياحُ من دَعتهُ للتخلي عن خجله حين بانتْ فتحةُ صغيرةٌ منه، فتحة من الممكن أن تسمحَ لهرٍ صغير أن يدخلَ منها بصعوبة.
أيضاً لا دخل للريحِ، باستغناء جفنيّ عن الانسدال بعدَ وصول حكاية الغفوة لهما لنهايتها، وبالرغم من أني فتحتُ عَينيّ عن آخرهما، لتبيان ما حصل، لم أصل لضالتي.
لا أدري حقيقة من أينَ دخلتْ المرأة التي يُصلّي البياضُ على جلدها، وجلستْ بجانبي على الكنبةِ التي كان جسدي ممدّداً عليها، ثمّ آثرَ الجلوسَ احتراماً للمرأةَ الغريبة عن ذاكرتي، لكن خانتني معرفة السّبب الذي جعلَ قلبي يخفقُ لها وكأنّ هناك صلة خفيّة تصلهُ بها منذُ زمن بعيد.
وجهها المدوّر كواحة ماء زلال يعترفُ بأصلٍ كريم أهداني الطمأنينة لأتأمّل على مهل فلسفةِ ليل شريد في عينيها الواسعتين كسماء يتفرّدُ برؤيتها الصوفيون، عينان تختزلان العمق في بؤبؤين يتمتعان بلمعةٍ غريبة تشبه دمعةَ قمر يحتفظُ بها لوقتها.
جنون سواد شعرها الطويل، حريصٌ على إثباتِ نفسه تحتَ الملاءة البيضاء، فلم تتخلّى كثافتهُ عن سرد حكاية خرافيّة على ظهرٍ مشدودٍ يَسرّ بقوّةٍ مُستترة، احتملتْ ثقل سنين لم تمرّ بكامل سلامها عليه.
جسدها المتوسّط الطول لا يخفي جبروت المرأة الحرّة، الممزوج بحنانٍ يفيضُ كنبعٍ من جبل أشم، الذكاءُ المتّقدُ يجاهر بحقيقته عادةً، إنهُ يتلبّسُ سُحنَتها بحنكة هادئة، تُجبرُ المقابلَ الإجلالَ دونَ عناء الشّرح، التجاعيدُ لم ترسم نفسها على وجهها القمري، بل كانت مجرّد تقاسيم تنمّ عن عمرها المتوقفٌ مزهواً بجماله في ربوع الثلاثين.
تبسّمتْ لي بشفتيها الناعمتين حينَ رأتْ دهشتي تناظرها بإعجاب تغلبهُ المساءلة عن جوهرها، كأنها ملاك بثوبٍ وملاءة من أثرِ الجنةِ.
فقلتُ: أهلاً بخالتي مُزنة.
لم يُلقمني أحدٌ اسمها… هو هكذا جرى الاسمُ على لساني لربما فؤادي من هتفَ بكنيتها.
فمها لم ينبس ببنت شفة، كانت عيونها الساحرةُ تحكي، وأنا أسمعها بكلّ وضوح.
- لا صلةَ لي بعالمكم، لكن لي في دنياكم جزءٌ مني، منعني القدرُ أن أحضنَهُ حين تنبّأ وحيداً: (ماتتْ أمي).
لم تفارقهُ روحي، كانت دائماً حولَ كلّ مراحلِ سنيّه تطوف، تشدّ يدهُ للأعلى إن وقعَ، تهدي خطوتهُ الدّربَ إن احتارَ في المسار، تُعيقُ خططَ الأنذالِ عنهُ وتقرّبُ لدربه الطيبين والأخيار، أتفاخرُ بين أهل الجنّة كلما زادتْ لمعةُ نجمه، أشيرُ إلى بطني قائلةً ذاك بكري وهنا رحمُه.
أتيتُكِ ووصيّةُ الأمومة هديّتي، ابحثي عن نجمِكِ في وسعِ هذا المدى، وإن تُهتِ… فخذي هذه القارورة فيها رائحةُ حليبي، رشّي منها على صدْغك ونادي: يا روح لنورِكِ اهديني.
لا أضمنُ لك بحثاً متوافقاً مع السهولة… تعلمينَ روح النّجم ليس من طبعها الوضوح، لها ديدنُ الضوء لا يُمكنُ الاستحواذ عليه ولا يمكن الاستغناء عنه.
لها سطوةُ الموسيقى، تأسرُ الألباب وتأخذُ الخيالَ في رحلةٍ بلا عودة، كثيرٌ ما تستعيرُ جناحيّ الريح تمرّ كنسمةٍ تُقبّلُ وجوهاً محميّةً بعطرها، وحيناً تقتلعُ أخرى دون رحمة لربما نبتَ لها شوكاً أو كانت تشبهُ الأعشاب الضّارة في المحيط الذي يهوى.
نجمُك يا ابنتي لا يؤمنُ بالعناوين، يتجلّى كيفما يشاءُ، يتحلّى بصبر الزمن.
أورثتُهُ طبعي بل وحتّى من اسمي، يشبه خير المطر… سترينَ بأمّ عينك بأنّ لمعتَه لا شبيه لها، تهتدي الهيبةُ بمشيتهِ وله جلسةُ الملوك، نظرته بحدّة عين النّسر، ضحكتهُ كأنها فرحةُ الطبيعة بقبلة المطر.
ستعتقدين إن تكلّمَ بأنّ الجنّ يلقنوه ما يَسردُ، ولصمتهِ ألفُ حكايةٍ لا تُقال.
اخترتُكِ من بين آلاف النساء كي تجديه وتكونين عيني في الدنيا عليه، عامليهِ كابنك فما زالَ بكري كما سلمتهُ للحياة من أربعين عاماً، طفلاً لم يكبر.
لا تسأليني لمَ وهبتُكِ أنت بالذاتِ وصيّتي به، هو قلبُ الأمّ دليلها كما تخبرين.
رحلتْ مُزنة وتبنّيتُ أنا ابنها النجم. لم أهتدِ له، بل هو ميّزَ حليبَ أمّه الذي أرشّهُ كلّ يومٍ على روحي كآية دعاء.
ينزلُ كلّ يومٍ من عليائه، يغرقني في حُلم وينتشلني من آخر…. هكذا حتى صرتُ مُزنته.
مع كل ريح خفيفةٍ وانفراجة ضيقة للباب، أنتظرُ الخالة مُـزنة بهالتها، بسطوتها في إحداثِ جلبة في داخلي، و متحيّنة لأسئلتها عن نجم يصعدُ إلى الأعلى، أعلايَ، و أعلى الأماكن المرتفعة التي أرتادها بدهشةٍ.
هكذا صرتُ مؤمنة بأننا نلتقي الأرواح التي تشبهنا وسبقتنا إلى عالم آخر، وإذا زارتني صاحبة الوصيّة ثانية، سأحاول أن أتشبث بها لتبقى طويلاً معي، وسنربي سوياً النجم الطفل الذي يأبى أن يكبر.