هدية حسين
بعد روايتها الشهيرة «فتاة القطار» التي حصدت أعلى المبيعات وتحولت إلى فيلم سينمائي، تعود الكاتبة البريطانية باولا هوكينز لتتحفنا بروايتها الجديدة «في عتمة الماء» وكما في روايتها السابقة فإنها تنحو منحى بوليسياً، وهذه المرة ليس بسبب جريمة قتل غامضة، وإنما حالة غدت ظاهرة لمجموعة من النساء يمتن غرقاً من مكان بعينه، هو الجرف الصخري بارتفاع خمسة وخمسين قدماً، ولأن الحالات تكررت فإن الضجة والأقاويل لم تهدأ، فجاءت إحدى النساء وتدعى نييل آبوت، وهي كاتبة ومصورة ناجحة، لتضع كتاباً تريد من خلاله أن تثبت أن موت النساء غرقاً بفعل فاعل وليس انتحاراً كما يشاع، لكن مشروع الكتاب لم يكتمل، لأن نييل آبوت غرقت هي الأخرى قبل أن تصل إلى الحقيقة، ترى ما هي الحقيقة التي كانت نييل آبوت تبحث عنها؟ وكيف تصرف رجال التحقيق إزاء هذه القضية؟ وما الدافع الذي يقف وراء موت هؤلاء النساء بالطريقة نفسها؟
تلعب باولا هوكينز على العامل النفسي لشخصياتها، تحللها وتفكك شفرتها من خلال مجموعة من الشخصيات لها علاقة ببعضها وبحوادث الغرق، لكن الأمر لم يكن سهلاً خصوصاً مع الشخصيات التي لها ميول انتحارية أو مأزومة، الأمر مع نييل آبوت كان الأصعب لأن هذه الشخصية، ومن خلال سلوكها الذي يعرفه الآخرون تبدو متزنة وليس لها ميول سوداوية، بل كانت تؤكد بعد كل حادثة بأنها ليست مع الانتحار إن كان الأمر انتحاراً، وأن هناك طرقاً لتسوية الأمور غير قتل النفس، وهذا ما دفعها لوضع الكتاب الذي لم يكتمل، والذي سلمه أحد المفتشين إلى المحققة إيرين لعلها تجد فيه إجابة لما يحدث.
بعضهن كن يعانين من أمراض نفسية
ومن خلال كتاب نييل سنتعرف إلى أول قصة غرق في هذا المكان، وهي قصة (ليبي) التي كما سمعت نييل بأنها ألقت بنفسها في النهر من الجرف الصخري أمام عيني ابنها، ثم توالت قصص الغارقات لدرجة لا يمكن تصديق أنها حدثت بفعل الانتحار بسبب أنهن نساء يائسات من الحياة، ومن خلال سير التحقيق تتشعب الكاتبة في البحث عن أدق التفاصيل في حياة الضحايا، وتسلك طرقاً وعرة للوصول إلى الحقيقة التي لا تصل الى القارئ بسهولة، لأن كثرة الشخصيات واختلاف أقوالها في التحقيق للتعبير عن وجهة نظرها لا يتيح للمحققين اتخاذ قرار يشأن ما يحدث، وبهذا تكاد تضيع الخيوط التي تأخذنا إلى أسباب ما حدث للضحايا، لكن باولا هوكينز تجيد إدارة اللعبة الروائية وتمسك بخيوطها فلا تفلت، وهي في الوقت نفسه تتلاعب بقارئها ليكون شريكاً معها في البحث عن الحقيقة.
تكتب باولا هوكينز روايتها بتقنية اليوميات المؤرخة بالأيام والأشهر دون ذكر السنوات، وتترك لشخصياتها حرية الكلام للتعبير عن وجهات النظر المختلفة والزوايا التي ترى فيها كل شخصية ما يدور حولها، وبالتأكيد تتقاطع وجهات النظر في الأحداث الكبيرة التي تقع للنساء تبعاً لنوع العلاقة التي كانت تربط هذه الشخصية أو تلك بالضحية، ومنها ما جاء على لسان جوليا شقيقة نييل، فقد كانتا على غير وفاق منذ كانتا صغيرتين، وتعمق الشرخ بينهما في سن المراهقة، ثم ابتعدتا في السنوات اللاحقة، وحينما غرقت نييل كانت جوليا قد كذبت في التحقيق وقالت بأن علاقتهما كانت جيدة، ربما لأنها لا تريد مزيداً من الثرثرة في الأمر مع الشرطة، لكن جوليا عندما تعود إلى بيت العائلة الذي كان يجمعهما تنثال الذكريات وتحدثنا عن التفاصيل التي لا يعرفها الكثيرون، ومنها أن نييل كانت خائفة من شيء ما، كانت تترك رسائل صوتية لأختها جوليا فلا تكترث جوليا لتلك الرسائل، وكان آخرها الرسائل التي تركتها لها قبيل غرقها وتطلب فيها من جوليا أن تتصل بها لأمر ضروري، وكالعادة لم تعبأ جوليا بتلك الرسائل، لكنها استعادتها بعد موت نييل وقرأتها جيداً وأحست من نبرة صوت نييل بأنها خائفة، لقد وقع الان ما وقع لتحدثنا جوليا بعد ذلك عن الهوة السحيقة بينهما، ونكتشف غيرة جوليا من أختها التي كانت تتمتع بقوام ممشوق وذكاء حاد وحياة لا يخدشها شيء، على العكس مما لدى جوليا، فهل لذلك كله علاقة بموت نييل؟
تتوالد حكايات النساء، وتستعاد حياتهن قبل حوادث الغرق، بعضهن كن يعانين من أمراض نفسية، تلك طريقة باولا هوكينز لجر القارئ لكي يعتقد بأن الغرق ليس مدبراً، فيتابع الرواية وكأنه يركض لا ليقف على ذلك الجرف الصخري ويشاهد موت النساء بل ليقف على ما وراء موتهن الفاجع، ترى من كان يقف وراء كل ما حدث لهن، وما هي الدلائل التي توصل لها التحقيق؟ كل ذلك وبمتعة وتشويق ستجده في رواية «في عتمة الماء» التي صدرت عن منشورات الرمل بترجمة الحارث النبهان 2017.
- عن ميدل أيست أون لاين