كثيراً ما أضع مثل هذه العناوين التي تبدو ملتبسة ومتناقضة للأعمدة والكتابات المعنية بالشأن العراقي، والسبب يعود لغرائبية المشهد العام في هذا الوطن المنكوب قبل “التغيير” وبعده. وعنوان اليوم يجمع بين إحدى أكثر المفردات العراقية رواجاً “الزقنبوت” ومعناها المرادف للسم الزعاف (سم وزقنبوت) وضده النوعي الحرية، أجمل وأحلى وأرقى شعارات الدنيا، حيث يرتبط بهذه المفردة كل ماهو جميل ومشرق في تاريخ سلالات بني آدم. في وطن تحولت فيه قيم العبودية والإذلال الى ثوابت وفلكلور شعبي، ليس من الغريب أن تواجه لحظة الحرية والانعتاق من براثن السلطة المطلقة لأبشع نظام توليتاري عرفه تاريخ المنطقة الحديث (9/4/2003) كل هذا الحزم والإصرار من الحملات المضادة لتشويه مثل تلك اللحظة، لحظة تلقف شحاطات أطفال بغداد لرأس مارشال الأصنام في ساحة الفردوس. بغض النظر عمن تلقف مقاليد أمور الغنيمة الأزلية وأسلاب النظام المباد بعد “التغيير” فذلك يعود لأسباب محلية محظة، أو كما يقول الشاعر (على قدر أهل العزم تأتي العزائم…) فإن الأبواب بعد زوال الدكتاتورية أصبحت مشرعة أمام العراقيين لرسم خياراتهم ومصائرهم، وغالبية ما حصل لنا بعد ذلك يقع على عاتق من انبرى لحمل تلك الأمانة التاريخية (التأسيس لعهد من الديمقراطية والحداثة والحريات) والتي لم تخفق في ذلك وحسب بل قدمت كل ما يحتاجه أيتام النظام المباد من ذرائع ومبررات لتحويل حقبة التحول نحو الحرية الى زقنبوت متواصل الى يومنا هذا.
إن القسم الأكبر من غرائبية المشهد الراهن يعود الى النشاط الهائل الذي يقوم به ما أطلق عليه دائماً لقب (المعطوبين) وهم حطام ورش صناعة البعث لـ (العراقي الجديد). المعطوبون هم شريحة واسعة تضم طيفا واسعا من بقايا البشر المنحدرون من شتى الانتماءات والعقائد والمستويات والتخصصات، وهم يقومون بدور خطير في مهمة زيادة اللبس والغموض والعتمة للمشهد الراهن، لا سيما وهم يعملون خلف واجهات تبدو ظاهرياً بعيدة عن واجهات الفلول، لكنهم عملياً ينجزون ما مرسوم لهم في مهمة تحويل مرحلة الانتقال الى الديمقراطية والحريات الى زقنبوت، عبر ترويجهم للمفاهيم الملتبسة وبنحو خاص ما يتعلق بمفردة “الاحتلال” التي تحولت الى عكازة لكل من هب ودب للعودة مجدداً الى الأضواء، معولين في ذلك على ذاكرة الذباب التي لم تعد تتذكر شيئاً من سيرتهم المعطوبة زمن النظام المباد.
ما نحتاجه اليوم كي نفك كل هذا الالتباس الجائر بين الشتيتين (الحرية والزقنبوت)؛ هو الغربلة الواسعة والشاملة لما يجري من اشتباكات وخلط في المواقف والمصالح والمفاهيم، وهذا يتطلب الوعي بضرورة وضع حد لهذا الوباء من الحفلات التنكرية، والتي سمحت بتسلل الفلول وحطام القيم والبشر الى مصادر المسؤولية والقرار في التجربة الجديدة. وهي مهمة عسيرة ويزيدها عسراً موقف ومصالح الكتل التقليدية المتنفذة حالياً، حيث تتضارب هذه الغربلة ومكاسبها الفئوية التي قضمتها ببركة كل ذلك اللبس الشامل الذي عصف بعراق ما بعد “التغيير”. من دون هذه (الغربلة) ووعي لحظة “التغيير” بوصفها منعطف لانتشال مشحوفنا المشترك من لجة العالم القديم الى حيث الحداثة والتعددية والحريات ودولة المواطنة؛ لا يمكن الخلاص من كل هذا الزقنبوت المدعوم من كل هذا الحطام الهائل من البشر وسكراب العقائد والقيم..
جمال جصاني
زقنبوت الحرية
التعليقات مغلقة