في (عاريا أغادر هذا العالم) للناقد محمد جبير

نبوءة السارد وصياغة خرائب الأحلام

محمود خيون

على مر التأريخ عاشت الأمم مصائب وويلات كثيرة جراء ما اصابها من اوبئة وأمراض فتاكة تركت آثارها الأليمة في نفوس شعوبها وكبار قومها…وفي هذا الصدد كتبت الباحثة سمية عبد المنعم تقول أن ساسة ومشاهير قد أصابهم وباء العصر « الكورونا « حتى صار كابوسا يرتع بين واقع ومنامات سكان الكرة الأرضية بأسرها…لكن بنظرة سريعة لتأريخ الأوبئة على مدار التاريخ نلحظ أن «كرونا « ليس هو الفيروس الأول الذي استهدف المشاهير. ففي القرن الثامن عشر الميلادي تعرضت إحدى المدن العربية، لوباء قاتل، أدى إلى مقتل عدد كبير جدا من سكانها، كان بينهم، جميع شعرائها وكتابها قاطبة…فقد ضرب مدينة صفاقس التونسية طاعون وصف بالرهيب، في سنتي ١٧٨٤و١٧٨٥ وقيل فيه الكثير عن شدته وعدد الناس الذين ماتوا فيه…وتضيف الباحثة بأنه في بدايات القرن العشرين وبالتحديد في أكتوبر عام ١٩١٨ قضى الفنان التشكيلي النمساوي ايغون شيلي نحبه جراء الأنفلونزا وذلك بعد أيام قليلة من وفاة زوجته اديت التي كانت حبلى بطفلهما الأول…
وهكذا تتحدث العصور عن الكثير من المآسي والويلات التي أصابت الناس جراء الأوبئة.
وفي كتاب(عاريا أغادر هذا العالم ) للكاتب والناقد محمد جبير يتحدث المؤلف عن حجم المعاناة النفسية والمعنوية التي أصابت الجميع جراء الخوف والخشية من وباء( كرونا) المخيف الذي شل حركة الناس والاقتصاد وشاع روح القلق والريبة بين من صدموا في فقدان عزيز لهم أو صديق أو زميل مهنة …وراحت أخباره السيئة تسري مثل النار في الهشيم وكان رمادها أن يبست البسمة في شفاه الناس وتغلغل القلق الدائم في شفاه المتعبين الذي انهكهم هذا الزمن الغابر ونال ماتبقى من قواهم العقلية والجسدية وامتلكهم الضجر فصاروا أشبه بالمجانين بعدما خارت اعصابهم وهم يقظون أيامهم بلا طموح ويعيشون على خرائب الأحلام وهم يستظلون سقوف البيوت ويحتمون بجدرانها تنفيذا لوصايا لجنة السلامة (خليك فى البيت )..وتحولت بقدرة قادر البلاد جميعها إلى سجن كبير يدور الناس بين اسواره يتعبدون بطقوس جديدة جاءت بها الأخبار الرهيبة عن تبعات هذا الوباء اللعين…
وقد إستطاع الكاتب محمد جبير تسجيل تلك الوقائع بدقة وحرفية وبأسلوب سردي رائع وكأنه يتلو على الجميع حكاية من أغرب الحكايات وابشعها صورا فيقول…. لايمكن لشخص ما أن يتصور شكل العالم بعد الجائحة إلا السارد فالحياة عبارة عن كذبة كبيرة نسعى ونوهم أنفسنا بتصديقها وعندما تحين ساعة الرحيل نراجع شريط الحياة، نفكر به لكنه يمر كأنه شريط لحظة.
السارد هو الشخص الوحيد القادر على إعادة تركيب ( شريط اللحظة ) وتحول خرائب العالم إلى فراديس أحلام، لكن تلك الأحلام لا تأتي من فراغ، ولابد أن يكون لها امتداد في الواقع، من هذه النقطة تتبع الفردية التي تنتج الفرادة في التفكير والتعبير، وفي هذا الصدد تقول الروائية ايزابيل الليندي « في سن الطفولة كنت اعاقب على قول الأكاذيب، الآن بعد أن أصبحت اكسب قوتي من هذه الأكاذيب صرت أحترم مساجد» …
ويضيف الكاتب محمد جبير( توقفنا عند محطات كثيرة من اجل استرجاع ذكرى وتدوينها، ذكرى لا نريد لها أن تغيب أو تفقد قيمتها الإبداعية والثقافية في زمن ضياع القيم الاعتبارية للثقافة والمثقف، لقد سعينا في هذا الكتاب من أجل تأكيد شهادة محبة لكل من غادرنا من الأصدقاء الذين تجمعنا معهم مشتركات الذكرى الإجتماعية والثقافية إذ انطلقنا من صورة الشخصي إلى الأثر الإبداعي، بغية أن تبقى ذكراهم خالدة في ذاكرة الأجيال القادمة من الباحثين والدارسين لمسيرة السرد العراقي وهو إنتصار للحياة أيضا..).
ومما تقدم فإننا نستطيع الجزم بالقول بأن الكاتب محمد جبير أراد في كل ذلك أن يسجل كل صغيرة وكبيرة من المشاهد الحية التي عاشها مع رفاقه وزملائه غادرونا على حين غفلة ومنهم من جاء
ذكرهم في مستهل الكتاب وكيف كانت اللحظات الأخيرة حاسمة بالرحيل بعد أن اطبق الموت على حقيقة الواقع وشرئب على ما يريد أن ينهي رحلته في الحياة ليجد له سببا مقنعا أمام الناس وان القدر حكم عليه الموت بالجائحة.. وكما وصفها الكاتب..( في أيام الحجر الوبائي نزلت علينا أخبار الفقد مثل الصواعق لا نكاد نصحو من صدمة رحيل عزيز حتى نصدم بغياب عزيز آخر في عز عطائه وعنفوانه الإبداعي )…
هكذا كان يريدها محمد جبير أن تكون ملحمة سردية تحمل بين طياتها ذكريات مؤلمة وحزينة لاناس كنا نكن لهم المحبة والصداقة والسلام.. فهو يتحدث كيف كان يعاني حميد الربيعي من معاناته مع المرض وكيف كان يفكر بأنه يجب يكون شيئا قبل الرحيل لانه كان يرى أشباح الموت تتراقص في حبور وغبطة من أمام عينيه، فيضحك هو في سره لغرورها لأنه كان يدرك أن هذه الحياة التي عاشها بالطول وبالعرض ما كانت إلا حياة بائسة وخاوية وعبثا كنا نتشبث بها من خلال صناعة الأمل والحياة….وعن رحيل القاص محمد علوان المفاجيء بعد أن قضت كل مشاورات الأدب والإبداع والتمني بولادة منجزات أخرى تحمل ألوان لانطلاقة جديدة في فن الكتابة وسردية الحدث…والتأمل في مشاريع أخرى أكثر جدية من سابقتها « سفر الثعابين» و» دهاليز الموتى « وغيرها…
ثم يعود بنا المؤلف محمد جبير إلى حكايا الزمن الماضي والى إبداعات كتاب رحلوا عنا من دون تمهيد أو أخبار ومنهم القاص الراحل عبد الستار ناصر وعن قصته الشهيرة « سيدنا الخليفة « التي كتبها مطلع النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي والتي تحدث فيها بعد أن نفذ صبره عن سيقان الفتيات الاتيقات الجميلات وهي تطلى بالاصباغ من قبل شرطة الآداب لأن ملابسهن قصيرة « فوق الركبة «بناءا على توجيهات الخليفة في الحد من هذه الظاهرة ومنعها منعا باتا حفاظا على القيم الإسلامية من أن تنهار أمام الجمال. وتحدث الكاتب أيضا عن نص «فهد الاسدي» ..حلب بن غريبة….الذي ظل أكثر من أربعة عقود مختبئا في ادراج مكتبته على الرغم من أنه كان يسكن عقله وفكره ولم يغادر…
أقول لقد إستطاع الكاتب محمد جبير في كتابه( عاريا أغادر هذا العالم ) أن يغور في أعماق تلك الملحمة الرهيبة التي عاشتها البلاد وكأنها النار التي تسري في غابات شاسعة ومترامية الأطراف لايمكن لأي قوة أن تقدر على اخمادها، افقدتنا الكثير من الاحبة والزملاء وغابوا عنا على حين غفلة وبسرعة البرق. وكما وصفها المؤلف أن فايروس كرونا(قد غير أبجديات حياتنا وغير أبجديات السرد والتفكير والكتابة وزرع فينا قناعات لم نفكر فيها سابقا.. أو لم نضعها في أولويات حياتنا، صار الخوف على العائلة وتحصينها من الشر الكامن خلف أسوار الدار هدفنا الأسمى في الحياة )…
لقد توسع الكاتب محمد جبير في أفقه الإبداعي ليشمل في كتابه أبواب أخرى مهمة تحدث فيها بدقة ودراية وفهم وقدرة على الوصف والتعبير وتحدث عن سير لرموز فكرية وثقافية كان لها الأثر الكبير في دعم المسيرة الرائدة للأدب والمعرفة في بلادنا، ومنها مرثية النضال واعتقال نادر واغتيال سارد وتغييب مفكر سارد وموت مفاجيء ووجودية السارد و كاظم الأحمدي وباسم الشريف وغيرها ولقد أصاب في تسليط الضوء على عشرين من الروائيين والكتاب رحلوا عنا وتركوا لنا خزينا ثرا من الروائع في عالم الرواية والقصة والنقد والبحث وغيرها من الدرر التي لايمكن للزمن أن يمحوها….

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة