طارق الكناني
يتمحور العمل الأدبي في الغالب حول نقطة أساسية ينطلق منها الأديب في نقل مكامن الإبداع الذي يعتريه وهو المكان، لابد من أن حدثا معينا ترسخ في ذاكرة الأديب ويكمن في ضميره كضوء ينبعث في ذاكرته بين الحين والآخر حتى يترجمه على الورق كمحور اساسي لروايته او قصة قصيرة او قصيدة ،فهو يبرز كمنجم للحدث الابداعي في لحظة معينة يستذكر فيها الاديب ما يطفو على الذاكرة من احداث مؤثرة وضعت له اسس الابداع الفني ، فهي غالبا ما تكون مؤثرة في الذات سلبا او ايجابا على حد سواء ، ففي الشعر على سبيل المثال لا الحصر نجد في معلقة امرؤ القيس المكان حاضرا وكذلك بقية المعلقات ،وينسحب هذا الشيء على الادب القصصي والروائي عند كل الادباء بغض النظر عن انتماءهم العرقي والديني فالمكان ((يكتسب في الرواية أهمية كبيرة، لا لأنه أحد عناصرها الفنية، أو لأنه المكان الذى تجرى فيه الحوادث، وتتحرك خلاله الشخصيات فحسب، بل لأنه يتحول في بعض الأعمال المتميزة إلى فضاء يحتوى كل العناصر الروائية، بما فيها من حوادث وشخصيات، وما بينها من علاقات، ويمنحها المناخ الذى تفعل فيه، وتعبّر عن وجهة نظرها، ويكون هو نفسه المساعد على تطوير بناء الرواية، والحامل لرؤية البطل، والممثل لمنظور المؤلف، وبهذه الحالة لا يكون المكان كقطعة القماش بالنسبة إلى اللوحة، بل يكون الفضاء الذى تصنعه اللوحة)) ففي روايات نجيب محفوظ اكتسب المكان اهمية كبرى من خلال المناطق التي دارت به احداث رواياته كما في ثلاثيته الشهيرة (قصر الشوق وبين القصرين والسكرية ) فالعناوين كما نراها هي اسماء لأمكنة في القاهرة القديمة تدور احداث الرواية فيها .
اهمية المكان في سرديات الروائي:
ربما جاءت متأخرة بعض الشيء الا ان الادراك الحسي للروائي علي لفته سعيد وما نتج عنه من استحضار للمكان الراسخ في الذاكرة النمطية للطفل جعله يعود وبشكل قوي ومؤثر في روايته (السقشخي) الى حيث الانتماء المكاني، ففي هذه الرواية كان المكان هو فضاء اللوحة التي رسمها الروائي علي لفتة سعيد ولونها بالأحداث والشخوص الذين اتخذوا من هذا الفضاء مسرحا للعمل الدرامي الذي استحضره الكاتب .ففي تجربة (السقشخي) لم يكن المكان مجرد خلفية تتحرك امامها الشخصيات او تقع فيها الحوادث ،انما كان معبرا عن نفسية الشخصيات ومنسجما مع رؤيتها للكون والحياة وحاملا لأفكار جديدة . (وفى هذه الحالة” يبدو المكان كما لو كان خزاناً حقيقياً للأفكار والمشاعر والحدس، حيث تنشأ بين الإنسان والمكان علاقة متبادلة يؤثر فيها كل طرف على الآخر ”
لم يتوقف علي لفتة سعيد عن استحضار القيمة المكانية للحدث الدرامي فهو في ثنائيته حب عتيق وقلق عتيق قد اعاد التجربة مرة اخرى حيث شكل المكان البنية الفوقية وغدا فيها كفضاء اسهم في بناء الرواية واتسع ليشمل العلاقات بين الامكنة والشخصيات والحوادث فأصبح نوعا من الايقاع المنظم لها .
“إن الوضع المكاني في الروايتين (حب عتيق وقلق عتيق ) اصبح محدداً أساسياً للمادة الحكائية ولتلاحق الأحداث والحوافز، أي إنه تحول في النهاية إلى مكوّن روائي جوهري وأحدث قطيعة مع مفهومه كديكور” .
ان عملية استكشاف البعد المكاني لروايته (السقشخي) قد شجعت سعيد في الانطلاق نحو اعمال روائية عالية الجودة كما في (حب عتيق) والتي فازت بجائزة عربية مرموقة اعتمد فيها على جغرافية مكانية مهمة وفضاء رحب لحركة شخوص رواياته ((وإذن “يمكننا النظر إلى المكان بوصفه شبكة من العلاقات والرؤى ووجهات النظر التي تتضامن مع بعضها لتشييد الفضاء الروائي، فالمكان يكون منظماً بنفس الدقة التي نظمت فيها العناصر الأخرى في الرواية، لذلك فهو يؤثر في بعضها، ويقوّى من نفوذها، كما يعبر عن مقاصد المؤلف”
وهكذا ،فقد حقق علي لفتة سعيد الفضاء الروائي “فالفضاء الروائي أكثر شمولاً واتساعاً من المكان” فهو أمكنة الرواية كلها، إضافة إلى علاقاتها بالحوادث ومنظورات الشخصيات .وهو ينشأ من خلال وجهات نظر متعددة، لأنه يعاش على عدة مستويات، من طرف الراوي، بوصفه كائناً مشخصاً، وتخيلياً ، أساساً.
وهكذا يتجاوز المكان وظيفته الأولية المحددة، بوصفه مكاناً لوقوع الأحداث، إلى فضاء يتسع لبنية الرواية، ويؤثر فيها، من خلال زاوية أساسية، هي زاوية الإنسان الذى ينظر إليه.
لقد عمد الروائي إلى إسقاط مجموعة من الصفات الطوبوغرافية على الفضاء أو المكان الروائي, “والتي هي عبارة عن »المعاني الوصفية التي تدخل في تركيب صورة المكان والقيم الرمزية المنبثقة عنها« , إنما فعل ذلك بغية البرهنة على العلاقة بين المكان والشخصية في رواية السقشخي وكذلك حب عتيق وقلق عتيق . كما أن اختلاف هذه الصفات وتنوعها من مكان إلى آخر في الفضاء الروائي, قد عكس لنا الفروق الاجتماعية والنفسية والأيديولوجية لدى شخوص الروايات. هذا فضلا عن أن الدلالات النابعة من هذه الفروق قد كونت تعبيرا عن رؤية شخوص الرواية للعالم وموقفهم منه, كما كشفت عن الوضع النفسي للشخوص وحياتهم اللاشعورية, بحيث صار للمكان بعد نفسي يسبر أغوار النفس البشرية, عاكسا ما ((يثيره المكان من انفعال سلبي أو إيجابي في نفـس الحال فيه)).
العلاقة البينية بين المكان والشخوص :
في روايتيّه حب عتيق وقلق عتيق سلط الروائي الضوء على تسميات الأمكنة ودلالاتها التاريخية في اصل تسميتها ففي منطقة مثل النجادة نسبها الى النجديين الذين جاؤوا مع الحكم الملكي في العراق من نجد واكتسبت المنطقة هذه التسمية نسبة لهم كما هو الحال في كثير من الاماكن في العراق ففي بغداد نجد هذه التسميات بكثرة وبهذا اتضحت العلاقة الجدلية بين الانسان والمكان في الادب الروائي ،وقد يكتسب المكان اسمه من اصل المهن التي يتداولها الاشخاص في تلك المنطقة ،وفي احيان كثيرة تجد بعض المناطق تكتسب اسم شخص معين وهذا ما حاول سعيد ترسيخه في الذاكرة الجمعية للقرّاء ،فمثلا منطقة النواشي التي ورد ذكرها في روايتيّ حب عتيق وقلق عتيق ركز الكاتب على ابراز هذه العلاقة من خلال نبذة تاريخية او احداث معينة انصهرت مع واقع المنطقة لتغدو علامة بارزة لها في الحدث الدرامي للرواية .لقد كتب سعيد ثلاثية (الصورة الثالثة) وكذلك مثلث الموت ففي مثلث الموت كانت التسمية متخيلة تماما كما ارادها الكاتب فهي لم تكن تُعرف بهذه التسمية من قبل ولكن الحدث الدرامي الذي جرى في هذه المنطقة اكسبها تسمية جديدة مختلفة عن تسميتها القديمة .اما في الصورة الثالثة فقد كان الحدث الدرامي يدور خارج منطقة ذاكرة اللاوعي للكاتب لذا نجد حالة قطعة القماش التي رسم عليها اللوحة بقيت مجرد خلفية تتحرك امامها شخوص الرواية فهي لم تكن سوى ديكور ،وهذا ينبع من مخزون الذاكرة للكاتب ففي منطقة سوق الشيوخ حيث ولد وترعرع وشهد الكثير من احداثها ،وبرغم الفترة الزمنية التي فارق فيها الكاتب تلك المنطقة إلا ان المكان بقي ثابتا في مخيلته لهذا نجد حالة التماهي مع المكان قد تجسدت في هاتين الروايتين ،وكما هو معروف ان الزمان والمكان عنصران متلازمان في الرواية الا ان الزمان هو عنصر متحرك والمكان عنصر ثابت وهو يمثل حالة البوح الذي يمتلكها علي لفتة سعيد في سردياته .
فوجود الكاتب في المكان أدى إلى تعضيد العلاقة بينهما, تلك العلاقة التي أخذت في التنامي (حتى أصبح المكان واحدا من القضايا التي يخترقها الكاتب بالبحث بغية التعمق في هذا المحسوس وتمام إدراكه).