حين ينماز الإبداع شعرًا – عن مرثاة مروان عادل في الإمام الحسين ع

د. وسام حسين العبيدي

من القصائد التي ستبقى متوهّجة بشعريتها – بحسب ياكوبسن صاحب الخطاطة التواصلية الشهيرة- الفذّة، التي تنبع من عمق (الرسالة) لتطغى وظيفتها الشعرية على سائر وظائف عناصر التواصل الأُخر، هي قصيدة المرحوم (مروان عادل حمزة) هذه القصيدة التي انحرفت عن مسار الركب من القصائد في موضوع الرثاء الحسيني، وغرّدت خارج السرب، شأنها شأن عينية الجواهري التي خلعت قيود الطرائق التقليدية في استقبال الحدث الأليم من كل عام، بأن توجّهت للشخصية – مدار الحدث- وخاطبته لا بوصفه (إمامًا معصومًا مفترض الطاعة) هذه الصورة التي حافظ ويحافظ على تكرارها واجترارها رعيل الشعراء السابقين واللاحقين، بل بوصفه قائدًا ثوريًا ومُصلحًا إنسانيًا كبيرًا.. أما الفقيد الراحل (مروان عادل حمزة) فقد التقط مشهدًا عابرًا من مشهد استقبال الذكرى السنوية لمقتل الإمام، وتلقّفه تلقّف الخبير العارف بما يحتجنه من تفاصيل مدهشة، فراح يُقشِّر هذا المشهد؛ ليصنع منه حدثًا موازيًا للحدث المركزي (استذكار تاريخ المقتل واستلهام العبرة منه) نافخًا فيما جاوره والتصق به من مشاهد لطقوس إحياء ذلك المشهد، من قيام الناس الموالين (بمعنى الحب أو المشايعة) بطبخ الطعام المعروف في تلك المناسبة السنوية، وتتحدد (قيمة) القصيدة لا بالتعرّض إلى هذا الطقس (إعداد الطعام) بل بالتقاط مشهد جانبي ينبني على ذلك الطقس المحبّب لدى أولئك الناس، يتعلق بالتلقّي – بتعبير ياوس- المصحوب بتدافع الأطفال -وبنسبة اقل منهم يكون الكبار أيضا مع تلك الجموع- الحاملين قدورًا لأجل الحصول على ذلك الطعام، هذا المشهد “الشعبوي” يربأ الكثير من “النخب الثقافية” من الشعراء، من أن يوظِّفوه في أشعارهم، وإذا مرّوا به في أحاديثهم، فليس إلا من باب التندّر أو السخرية أو الانتقاد..! لكن مروان عادل، قرأه من زاويةٍ أخرى فاتت الكثير الكثير من الشاعر، وهنا تظهر (جمرة النص الشعري) بتعبير الراحل الشاعر والناقد عز الدين المناصرة، حين ينحرف موضوع القصيدة وينزاح عن الطريقة المعتادة في تناول الموضوع أو الظاهرة قيد النظر، ذلك الانزياح بالمعنى الذي تحدث عنه جان كوهين في “بنية اللغة الشعرية” بقوله: “هو كل ما هو ليس شائعا ولا عاديا ولا مطابقا للمعيار العام”.. ولم يكن الانزياح متوقفا عند التقاطه هذا المشهد، بل بتفاصيل خارجية حفّت بالطقس، وهو الإشارة نصِّيًا إلى الظرف السياسي الذي تُقام فيه مثل هذه الطقوس، وهنا تزداد مناسيب الشعرية في النص، حين يتحدى أولئك “الطابخون” عسف النظام الشمولي وطغيانه في منع إقامة مثل تلك الطقوس ومحاسبة أصحابها، وأظهر في الوقت نفسه ما كان عليه أولئك “الطابخون” من فقر مادّيٍ وإدقاع لما لوطأة الحصار الاقتصادي عليهم من أثر، لكن التحدي والحب لإحياء تلك الذكرى بإطعام من هم أفقر منهم، دفعهم لتلك الممارسة، بوصفها طريقًا لترجمة حبهم لمعشوقهم الإمام الحسين ع .. فضلا عن قصديته – بالمعنى التداولي للمصطلح- في استعماله كلمة (جدر) بدلا من (قدر) تلك الجيم المستعملة في اللغة المحكية الدارجة عند المتكلمين من أبناء الوسط والجنوب من أهل العراق، لفتت انتباه الشاعر، وجعلته يتحسس النبض المتدفق من حروفها بطريقتها المحكية، ومعلومٌ أن (القصد) يعد لبّ النظرية التداولية؛ لأن المحادثة اللغوية في نظرهم، لا يمكن أن تتم من دون وجود تفاعل بين المتكلم والمتلقي، وذلك بواسطة إنتاج اللفظ من قبل المتكلم، وتأويله من قبل المتلقي لمعرفة المراد منه. واختيار الشاعر لكلمة (جِدر) بدلا من (قدر) يمثل توظيفًا شعريًّا ذكيًّا لتلك القصدية، بالطريقة نفسها التي أدار بها السياب كلمة (خطية) ذات الاستعمال الدارج في قصيدته (غريب على الخليج) مؤدّيًا عبرها رسائل مضمرة يترك بعضها للمتلقي العليم، وبعضها الآخر، يُلمّح عن مداليلها، فالطقس (الطبخ) لم يصدر إلا عن تلك الفئات المهمشة من أبناء الشعب، تلك الفئات التي لا تتعامل مع الطعام بالشوكة والسكّين، دلالة على تواضعها فيما يصدر عنها من سلوكيات ومن كلامٍ أيضًا، فهي لا تحرص على ضبط مخارج الحروف، وإعراب الكلام بقدر ما تضبط إيقاع تلك الطقوس وتؤدّيها على أكمل وجه، فلم يكن الفقر عائقًا عن إقامة طقس الطبخ، ولم تكن اللغة الدارجة التي تشكل لغتهم اليومية، سببًا للابتعاد عن الدين المحفوفة نصوصه بطوابير من النحاة والمفسرين وغيرهم من أهل الاختصاص، بل صارت تلك اللغة المحكيّة، مائزا عن “الدين الرسمي” الذي اصطف دومًا مع السلطة وأذنابها من وعّاظ سلاطين باعوا آخرتهم بدنياهم، أما هؤلاء “الطابخون” فهم أدرى بمعشوقهم – صاحب الذكرى- وأكثر إيمانا بدينه الذي ضحى من أجله، فهم يتأسّون بمصابه، ولا يخشون ما سيقع عليهم بعد أدائهم ذلك الطقس من غوائل السلطة وجلاوزتها. وبهذا تتفتق هذه القصيدة عن شعرية خصيبة متميزة بهذا الطرح القريب من الوجدان الإنساني المتحرر من غلالة الانتماء الديني/ المذهبي، والمنطلق في رحاب إنسانية واسعة تسع الجميع في ظلال تلك الخيمة الوارفة.

)قل جدر الحسين ولا تقل قدر الحسين) …………………………………… .(

للطابخين لحوم الخوف تُشبِعُهم ……………ملامح الله في أفواه من أكلوا

(للدارخين) مع الذكرى مخاوفهم ………. وهم يدوسون ما خافوا بما انتعلوا

إذ حاول الخوف أن لا يطبخوا وضعوا ……… جدر الحسين على الطابوق واتكلوا

ناداهم (الجدر) في (عاشور) هل حطب؟ .. فادافعوا تحت (جدر) الشوق واشتعلوا

لما الحصار اشترى منهم منازلهم ………….. باعوا وما طرقوا بابا وما سألوا

لكنه (الجدر) الا (الجدر) إذ وصلت ……………… إليه حاجتهم ماتوا وما قبلوا

بل كل عامٍ لهم (جدر) يضاف إلى ……….. (جدورهم) ! والكريم الله والرسلُ

بل عندهم موعدٌ للدمع تسكبه ……….. كف السماء لكي يبكوا ويحتفلوا

في عاشر الغيم حيثُ الأفق لافتة ………….. خط الغبار بها أسماء من قُتلوا

إذ يرتدي الأفق _ إيذانا لأدمعهم …………… ثوب الغبار بأن هيا فقد وصلوا

يُخلون فيه سبيل الدمع في زمن ……………… لو دمعة أعلنت ذكراه تعتقلُ

يوزعون على حب الحسين يدا ………………. للجائعين إلى اأحزانه تصلُ

لو لوث الطبخ (ايديهم) أتاح لهم …… ذكر الحسين فصبوا الدمع واغتسلوا

محرمٌ والبيوت الطابخات على ……………. مد العيون بكل القائلين ؛ كلوا

محرمٌ وسخامُ الطبخ ظل على ……….. اهداب اعتابهم عنوان ما عملوا

هو السخامُ الذي خطوه في قزح …………….  لونًا نبيا ! وكل اللون مرتحلُ

ياما اندفعت صغيرا نحو ( جدرهمو ) …………… لما(الجداري) على ابوابهم دولُ

وكنت أفرغ (جدري) ثم املؤه ………. وهم يرون خداعي كيف يبتهل !!

وكم ملأت ! وكم أفرغت ! من طمعي …….. وكم أرادوا همو طردي ، وما فعلو

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة