حين فقدت مكتبتي.. المكتبة بوصفها استقراراً

رشا عمران

في كتابه الجميل «المكتبة في الليل» يقول ألبرتو مانغويل، الكاتب الأرجنتيني الشهير، الذي كان صديقا لبورخيس وقارئًا له (بورخيس كان ضريرًا) وصاحب أجمل الكتب عن المكتبة والقراءة (تاريخ القراءة، يوميات القراءة، ذاكرة القراءة، فن القراءة، المكتبة في الليل، الفضول): «الإلحاح للحصول على كتاب وتملكه هو نوع من الشهوة التي لا يمكن مقارنتها بأي شهوة أخرى». لم يقل مانغويل هذا القول عبثًا، فهو أكثر من يدرك هذا الهوس الذي يتملك أحدنا لاقتناء الكتب وتشكيل مكتبة في منزله. أفكر في معظم من عرفتهم في حياتي، لم يخل بيت أحدهم من مكتبة يمكن القول عنها: إنها مكتبة ضخمة، مهما كان البيت صغيرًا أو قليل عدد الغرف، مهما كان الوضع المادي سيئًا لهذا الشخص أو ذاك، دائمًا ثمة حلول موجودة لاقتناء الكتب وتشكيل مكتبة، قد تجد الكتب مصفوفة على الأرض، دون أي حامل لها سوى نفسها، ترتفع عن الأرض شيئًا فشيئًا، وقد تكون موضوعة ضمن علب خشبية (سحارة)، كانت تستخدم لتعبئة الخضار والفاكهة قبل أن يغزو البلاستيك العالم (صارت هذه العلب اليوم نوعًا من الديكور الذي يفاخر به من يصمم بيته بطريقة عصرية)، وقد توضع الكتب في أرفف معدنية رخيصة كتلك التي توجد في محلات البقالة أو غرف الأرشيف في الدوائر الرسمية، وقد توضع على رفوف خشبية موزعة على جدران الغرف، وطبعًا في الأغلب سوف توضع في مكتبات مصنوعة من أنواع مختلفة من الأخشاب، وبتصميمات مختلفة أيضًا، في كل الحالات سوف تحتل الكتب مساحة مهمة من مساحات البيت، لا سيما في غرفة الجلوس أو الصالة، مهما كان حجم هذه الغرف، أما من كان وضعه المادي جيدًا فسوف يخصص غرفة كاملة يسميها غرفة المكتبة أو المكتب، وغالبًا سوف تكون هي نفسها غرفة الكتابة إن كان صاحبها يمتهن مهنة الكتابة، وهنا يظهر شكل آخر للمكتبة، حيث يسمح المكان بترتيب الكتب وتصنيفها، حسب نوعها: إذ سوف نجد قسمًا للشعر وآخر للرواية، وقسمًا للمسرح، وواحدًا للتاريخ، وجهة مخصصة للدوريات الثقافية. وهكذا، سوف نكون أمام غرفة مخصصة للكتب المرتبة كما لو أنها في مكتبة عامة، هذا الترتيب للكتب حسب النوع هو أيضًا نوع من أنواع الهوس. أعرف صديقًا سوف يصاب بنوبة غضب إن سحب أحدهم كتابًا من مكتبته ليطلع عليه وأعاده إلى غير مكانه الأصلي، صديقي هذا يعتبر العبث بترتيب الكتب نوعًا من اللامبالاة، ليس بحقه شخصيًا بل بحق المكتبة ذاتها.
نشأت في بيت فيه غرفة صغيرة خاصة للمكتبة، كانت الكتب فيها موضوعة على أرفف مصنوعة من مادة شبيهة بالخشب، تركب الأرفف بعضها ببعض، وتوضع حسب الشكل الذي يرغبه صاحبها، وأتذكر أن بعض أرفف المكتبة كانت منحنية من ثقل الكتب الموضوعة عليها، كانت الأرفف تحيط جدران الغرفة، من الأرض إلى أدنى من السقف قليلًا، ومع ذلك لم تكف لاستيعاب الكتب الجديدة التي تتوافد إليها بشكل شبه يومي، هكذا كان الرف الواحد يستوعب طابقين من الكتب وأحيانًا أكثر، كنا نسمع أحيانًا صوت الرف وهو يئن من الثقل قبل مرحلة الانحناء، ذلك الصوت كان يشبه الهوس لي، كلما سمعته كلما ازددت سعادة أن ثمة كتبًا جديدة قد وصلت إلى البيت، وأن ثمة عالمًا جديدًا سوف أكتشفه خلال الأيام القادمة، لم يكن لدينا أحد في البيت يهتم بترتيب الكتب حسب نوعها، كان الرف الواحد يحوي أنواعًا مختلفة من الكتب، أسعد لحظات حياتي كانت وأنا أفتش في الأرفف عن كتاب يشدني عنوانه، أو سمعت عنه أو نصحني أحد بقراءته، إذ كنت أكتشف دائمًا كتبًا جديدة بالصدفة بعضها كان له الدور بما صارت عليه حياتي. علاقتي بالكتب والمكتبة بدأت منذ ذلك الوقت المبكر جدًا، لدرجة أن وجود مكتبة في البيت كان معيارًا لي حتى لصداقاتي فيما بعد، لن أصادق أحدًا لا يقرأ، ولا أريد عشرة من يعتقد أن وجود أية قطعة أثاث في المنزل أهم من وجود المكتبة.
بعد تركي لبيت عائلتي سكنت في بيوت كثيرة، كنت كل عامين تقريبًا أنتقل إلى بيت جديد، كانت الكتب هي أكثر ما يهمني الحفاظ عليه أثناء عملية التنقل، ومعرفة أين سأضع الكتب في البيت الجديد هي أول ما يخطر لي، في بيت ما وضعتها على الأرض، وفي آخر استخدمت العلب الخشبية، وفي غيره وزعت أرففًا خشبية على الجدران ووضعت الكتب عليها، آخر بيت سكنته في دمشق قبل خروجي منها، اشتريت مكتبة خشبية كبيرة وضعتها في المدخل الصغير للبيت، كانت تقريبًا تغطي غرفة المدخل، آلاف الكتب، موجودة فيها، هل قرأتها كلها: حتمًا لا، كنت أخطط طبعًا لقراءة معظمها، إذ لم أكن في وارد أنني سأفقدها يومًا، ولم أكن في وارد الانتباه أن الحياة جد قصيرة لقراءة كل الكتب التي نقتنيها، كنت أعيش ربما أكثر مما أقرأ، إذ كان لدي ذلك الاطمئنان أن الكتب في المكتبة في البيت تنتظرني، حتى لو تأخرت عليها لن تغضب مني، سوف تسامحني دائمًا، إذ ما من مساحة في الحياة للغفران أوسع من المساحة التي توجد فيها المكتبة، بيد أن مكتبتي تلك، بكل الشغف الذي وضعته فيها، بكل تسامحها، ذهبت مع الحرب، بعد خروجي من سورية (التي بت أدرك أنني لن أعود إليها)، فقدت كل ما كان لدي، بما فيها الكتب، التي استقرت في علب كرتونية كبيرة في سقيفة بيت صديق مات في الحرب ولم يبق أحد من عائلته في سورية.
(أنا أعرف تمامًا أن شيئًا ما يموت في داخلي عندما أستغني عن كتبي وأن ذكرياتي تعود إليها دومًا وأبدًا وتصيبني بحنين مؤلم للغاية/ ألبرتو مانغويل، المكتبة في الليل)، لم أشعر بالأسف على كل ما فقدته في سورية أكثر من فقداني لكتبي ومكتبتي، ليس لأنها كانت تحوي كتبًا لم تعد موجودة ورقيًا فقط، بل لأنني فقدت معها أمان الاستقرار، إذ لطالما كانت المكتبة في البيت تعني لي فكرة الاستقرار، فكرة الأمان، الملجأ، الونس، بيت يمتلئ بالكتب هو بيت لا تسكنه الوحدة، هو بيت حي، الكتب ليست مجرد ورق وحبر طباعة، هي أشخاص وعوالم لا مرئية تعيش معك وتمنحك الطمأنينة حين تشعر بالخوف، فقداني لكتبي ومكتبتي كان كشفرة سكين تحت جلدي تفتت لحم قلبي شيئًا فشيئًا، إذ ليس فقدان الوطن هو القاسي، الأشد قسوة هو فقدان الأمان، مكتبتي كانت هويتي، وطني، أماني الدائم، وكان علي أن ابدأ من جديد بتأسيس أمان آخر حيث أقيم الآن في القاهرة.
بدأت أقتني الكتب بشهوة لا تنضب، وضعتها أولًا في خزانة الحائط، ثم صففتها فوق بعضها على الأرض في ركن غرفة النوم، ومع كل معرض كتاب أو مرور عابر إلى المكتبات، حيث أقيم، تزداد الكتب ارتفاعًا، اشتريت مكتبة خشبية كلاسيكية ووضعت فيها الكتب، بلا أي ترتيب، على عادتي الدائمة، بحثت عن كتب أعتبر وجودها في مكتبتي أساسيًا، لكنها فقدت ككتب ورقية مطبوعة، الآن، لدي مكتبة في بيتي في القاهرة، ليست على الإطلاق بحجم وقيمة الكتب التي فقدتها في سورية، لكنها تساعدني على أمان أعيشه يومًا بيوم، إذ أدرك أنني سوف أفقدها هي أيضًا ذات يوم قد يكون قريبًا، وأنني سوف أصاب بألم الحنين لها، لكنني رغم ذلك لا أستطيع التوقف عن اقتناء الكتب، ليس فقط لأنها شهوة لا تعادلها شهوة أخرى، بل لأنها عادة من العادات التي بنيت عليها شخصيتي الحالية، إذ أن ما أنا فيه بكل سلبياتي وإيجابياتي هو حصيلة عادات لم أتوقف عنها منذ زمن طويل، أهمها اقتناء المزيد من الكتب وتأملها يوميًا وطلب مسامحتها على انشغالي بالحياة عنها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة