الوجه الآخر وتشظياته الموجعة

د. سمير الخليل
منذ البدء ومن سيميائية العنوان تضعنا مجموعة (يوميات الوجه الآخر) للشاعر (يحيى عبد حمزة) إزاء تداعيات الوجه الآخر المليء بالوجع والتشظي والخراب والوحدة والضياع، والبحث عن الذات وهيمنة كوابيس الظلام والإرهاب والاحتلال واغتراب الذات ازاء واقع يتماهى مع عبثية مضمرة وهو يرثي هذا الواقع ليكشف عن غياب الجمال والتوق والحريّة والنضارة، وفي النصوص ثمة اشتغال قصدي للاشتباك مع هذه التجلّيات الكابوسيّة كنوع من التحريض والاحتجاج والبحث عن عالم ولحظة كلّ بديلة، ولذلك نجد نصوص المجموعة تتصدّى لهموم الواقع وتمثلاّته الموجعة لكنّ هذا الاشتغال لا يخلو من دلالة فهو يحرّض مخيلة المتلّقي على استحضار الرؤية البديلة والدعوة إلى عالم وفضاءات أخرى تزيح كثبان ورماد هذه اللحظة الوجودية المأزومة.
جاءت النصوص على شكل التقاطات يوميّة لهذا الوجع والخراب والفراغ والوحدة وعوامل التقويض التي تحيل الحياة إلى كابوس متصحّر وإلى تداعيات تحمل كلّ أشكال ومعاني الأفول، وترثي الجمال والنضارة المفقودة في عالم يسير بقوّة باتّجاه الخراب واللاّجدوى، وتشعر في تضاعيف النصوص رفضاً قصديّاً لهذا الوجع المستديم والمهيمن، ومن المظاهر الجمالية والظواهر الفنية في المجموعة العناية الدقيقة في قصدية اختيار وانتقاء العناوين الدالّة لكلّ نص، واسهام العنوان في الدلالة على المعنى المضمر، وتقديم اضاءة أوّلية موحية لما ينطوي عليه الفضاء النصّي، وكشفت النصوص عن قدرة الشاعر في التعاطي مع كتابة النصوص الطويلة نسبياً، والنصوص القصيرة الوامضة التي تصل إلى حدود وخصائص قصيدة (الهايكو)، واتسّمت المجموعة أيضاً بالتنوّع في الاشتباك مع الثيمات والمضامين الشعرية التي تتوّزع في تجسيد الخراب والنكوص وتداعيات الكوابيس اليومية، ورصد حركة الحياة وهي تنكفئ باتجاه الخواء والفراغ والوحدة، وبما يؤسس لنصوص تتمركز حول رؤية وجوديّة مهيمنة لكنّها وجوديّة مؤطرّة بالبحث عن المعنى العميق ورفض الواقع بكل اختلالاته ومظاهر تداعيه وضياعه، مع التركيز على رفض الحرب وبشاعتها وإدانة الاحتلال البغيض ومظاهر العنف المرتكز على نوع من الوحشية والساديّة المقيتة، غير أن هذه المحمولات السوداوية ومظاهر الشجن اليومي لم تمنع الشاعر من الاشتغال الجمالي على مستوى اللغة الشعرية، وبنية الإحالات والإشارات، وصياغة أداء تعبيري يرتكز على استلهام لجماليات استعاريّة وتقديم صور معبرّة ومنتجة تعتمد المجاز الإشاري والايحائي وبما يضع النصوص في موضع الكشف والاكتشاف، ومتعة الوعي بالواقع، ورفضه للبحث عن تداعيات النسق الآخر فكرياً ورؤيوياً، ولم تقع النصوص على وفق هذا الاشتغال في المباشرة والسردية الهشّة والتقريرية والإيجاز المجرّد المخلّ، بل انفتحت على رؤى وعوالم دالّة ومنتجة لقصديات مضمرة.
إنَّ هذه المعطيات التعبيرية ارتكزت فيها لغة المجموعة على نوع من الأداء الذي يكشف عن معان أخرى وإحالة على رؤى وقصديّات تحتمها القراءة المغايرة للنصوص، وهذه الخصائص أبعدت النّصوص عن الذهاب إلى المعنى الأحادي والفكرة المجرّدة باتّجاه كشف عن منظومة من الإشارات والإحالات، وتقديم الواقع بلغة أبعد ما تكون عن التصدّي النقلي والإجتراري والابتعاد عن الموروث الكلائشي في تناول هموم الواقع، وتجنّب القولبة الجاهزة والتجارب المستنسخة ممّا جعل المجموعة تتسّم بالتفرد وامتلاك الصوت، ونسق المغايرة، وخلق فضاءات لإثارة الوعي والاحتجاج والتحريض ضد كلّ أشكال الخراب والتمزّق والضّياع والأسى المستشري.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة