قصة قصيرة طائر الشحرور

هيثم همامون

لاحت بين ضلوع أشجار الزيتون ريح عاصفة لا تبقي ولا تذر، ورأيت في البستان رجلين يسيخان السمع في هوادة، كانا مثل أخوين توأمين. استدارت نخلة مائلة في شموخ، بادرها ولد بيريك بارتياب “عهد مضى لم نر مثل هكذا رياح، ولعمري يسجد لها النخل عنوة، حتى مضخة الماء كركبتها واقتلعتها كما يقتلع ولد ديوب الحصرم من عنقود عنب”، لعبت الريح بجلبابه الخفيف الحالك، وهو يرصّ حجارة سور البستان بمخالبه الباردة، ينحني بقامته النحيفة على كل صخرة مرمية إلى بعيد فيعيدها فوق أخواتها في ترتيب عجيب، وفكه المتعب يسقط فيرفعه باعتدال، رأيتهما ينكبان على العمل كحمار وحشي في فلاة، بينهما ملامح شبه تعود بنا إلى أجداد الأجداد، حين كان السقف خشبًا صلدًا، والفرس شهامة، وبينما كنت أرسمهما، قطع أفكاري ولد العربي تائه بين أشجار الزيتون، يمدّ بعض الأشجار الميّتة إلى ولد برييك، يجمعها جبالًا متوسطة الحجم، ساد الصمت لبرهة ثم أردف يشير بيده المحدبة جهة الغرب:

-عندما تهب الريح الغربية على القرية تهتك عرض المنازل، وتشتّت الأغنام، تعمل عملها فينا، بئس الريح، أستغفر الله، نقيم سور البستان فتهدمه، عام وراء عام، من يتعب، الذي يقيم أم الذي يهدم؟

وحطّ في البستان طائران أسودان بمنقارين أصفرين، يغرّدان في سعادة، ثمّ يغرزان منقاريهما في الأرض، يقتفيان أثر الدود والحشرات، بعض الأوقات لا يجدان شيئًا داخل البستان فيكتفيان بالبصبصة ونتف أوراق الحشائش، بينما ولد بيريك تدفعه الريح تارة فيميل عكسها، يتوقف ببدلته كشراع سفينة، تنفخ فيها الريح بلا هدنة، رغم ذلك يعيد لفّ لثامه على رقبته المغروزة في كتفيه البارزتين كمصاصة أطفال، ثم ينقض على الحجارة تلو الحجارة، في غير كلل أو ملل، تسمع شخيره على بعد أميال من التعب، وككأس ملآى فاض لسانه “الكل في القرية يستريح هذا الصباح، ويغطّ في سابع نومة ونحن كالحمير، نعمل بلا راحة، على كلّ حال، ماذا نستفيد؟”، قطعت الريح القوية نتفًا ممّا قال لكن ولد العربي سمع بعضه:

-الحطب، نجمع هذه الرزم ونسوي السور كما كان، ثم نبيع الحطب

-كم ثمنها؟

-لا أعرف، لا ينبئك مثل خبير.

خفّت حدة الريح، وظهرت الشمس والية فوقهما في الأفق البارد، مازالت ياقة قميصه المتسخ لم تنجُ من الريح، ترفعها وتخفضها برفق، وخطر لولد بيريك أن يقول” هذه الطيور اللعينة، تحمل الأخبار إلى الرياح، كلّما أقمنا السور، أتت بثقلها عليه وهدمته، لتكن مثالا حسنًا للطير، مثل هدهد سليمان، يستبق الأخبار فنعمل اللازم”، ضحك ولد العربي ماسحًا دموعه:

-ماذا سنفعل في نظرك؟ نبني سدًّا منيعًا حول البستان، أو نحجبه عن الريح، إني أراك تمني نفسك بأشياء عجيبة.

الأصوات تطويها رياح وتنشرها رياح، ورفرف طائف من الحزن على الوجه الخشن المجعّد، فأطرق برهة إلى نخلته الممشوقة المتغطرسة تتلاعب بجريدها نسمات الغرب، ثم أجاب “بسيطة، بما أننا مشتركان في البستان، نتقاسم أجر أكياس الإسمنت نسدّ بها الثغور البائنة، وهكذا نضرب عصفورين بحجر واحد”…تناقضات الحياة تستهويهما وتنعش روحهما كما ينتعش طائر الشحرور بالتغريد. يصافحان السماء بجناحيهما المصطفقتين في انسياب، ثم يحطّان على البستان، عيونهما في حركة مستمرة هنا وهناك، أجنحتها وأذيالها تتحرّك بطريقة عصبية، تعيش في قلق كما ولد العربي وولد بيريك، وبغتة تطير إلى شجيرة قريبة بلا سبب واضح على الإطلاق. تعود للأكل بعد حوالي دقيقة، يدخل منقاره المدبب ليغور في بقعة تلو بقعة، زهرة تلو زهرة في البستان، يريدان إبلاغهما أن هذا البستان لهما أيضًا، وقفا يصفقان بمنقاريهما الريش، الأصابع الأربع غير صغيرة الحجم، مجعدة، وتنتهي بأظافر طويلة، تمسك بالأشياء بإحكام وسرعة، أدواتها مناقيرها وأقدامها وأجسامها النحيلة، تجمع الخشب وترصه، تنسج السلال وتحفر الجحور في البستان، تنحت الخشب، تشكل الطين وتنشئ الأرصفة والأنفاق وتبني السقوف. ما أشدّ ثبات الإنسان والطير؟ وتساءلت، ألم يصبهما إعياء، ألم يسأما، بينما سئمت من مراقبتهما.

تنثر رياح الغرب ريشهما أينما شاءت. تلعب بهما بين يديها كأنه نبات رشيق يجفف أوراقه في الهواء، يمدان رأسيها نحو الذيل كأنهما يدهنان ريشهما بالزيت. بحثا عن الأمان فلم يجدا إلا تلك البقعة للإقامة. فهل يضيق صدر الطير بعمل بشر؟ وفجأة حدث شيء خارج حدود الزمن، عندما بدأت الشمس تغوص خلف القرية، وها قد أطفأت الريح الغربية لهيبها، طار ولد بيريك وولد العربي مع سرب من طيور الشحرور صوب الغرب معاندًا الريح حيث يمضيان الشتاء، فكم من طائر شحرور محب للدفء لاقى حتفه أثناء هجرته، فلم يجد غذاء كافيًا ليواصل رحلته. رسمت ضحكتهما التي ظلت حبيسة في الصدر كل تلك الأعوام، التفتا نحوي، فإذا وجههما الداكن يلمع كأن عليه وهجًا من أضواء النجوم البعيدة، تطويه رياح وتنشره رياح، ومع كل هبة ريح يفوح أريجهما في البستان فلا يُنسى أبدًا.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة