وجدي الكومي*
…”يا لروعة الأرشيف.. يا لقسوته.. يا لمفاجأته”
بهذه الكلمات، استقبلت رسالة من صديقي عبر “الواتس آب”، تضمنت رابطاً لوثيقة تكشف عن رسالة أرسلها محرر مجلة “النيويوركر” روجر أنجيل لغابرييل غارثيا ماركيز، يعتذر له عن عدم نشر قصته “درب دمك على الثلج” ويقول:
عزيزي السيد غابرييل ماركيز…
أعتقد أن كارمن بلاسيلز قد أبلغتك أننا قررنا على مضض عدم نشر قصتك الجديدة: “درب دمك على الثلج”، القصة تتميز بذكاء كتابتك، وبالطابع العبقري المميز لها، إلا أن دقة تصويرها ربما لن تسحب القراء إلى تقبّل أو فهم منطق فكرتك الجميلة، كان هذا قراراً صعباً بالنسبة لنا، ونرسل لك ندمنا ونعتذر، ونتطلع بتوقعات غير منقوصة إلى الاستمتاع بمزيد من العمل الخاص بك في المستقبل القريب.
المخلص. روجر أنجيل
الرسالة المؤرخة في 15 يوليو/تموز العام 1981، سبقت فوز ماركيز بجائزة نوبل للآداب بثمانية عشر شهراً، وظلت طي الكتمان حتى اشترت جامعة تكساس أرشيف الروائي الكولومبي، وقررت تنظيم معرضٍ له هذا العام، فإذا بالرسالة تطل بعد أربعة عقود كأنها تبتسم ابتسامة ساخرة ممن خطّها، تعبر إلى تلك اللحظة التي جلس فيها روجر أنجيل في مكتبه بقسم “التحرير” كما يظهر في خطابه في مبنى مجلة “نيويوركر”، فمن هذا الرجل الذي رفض قصة صاحب “مائة عام من العزلة”؟
روجر أنجيل هو أيضا قامة أدبية أميركية عريقة، هو المحرر الرئيس لمجلة النيويوركر منذ العام 1944، وأصبح المحرر الأدبي في العام 1956، وبدءاً من العام 1962 كتب مئات المشاهد الرياضية معظمها عن رياضة البيسيبول والتنس والهوكي وكرة القدم وسباقات الخيل، بالإضافة لذلك كتب مراجعات عن الأفلام والقصص، وظهرت كتاباته في عدد من أنطولوجيات أفضل الكتابات الأميركية الرياضية، وأصدر تسعة كتب، وفاز بعدد من الجوائز بينها جائزة نادي القلم عن مجمل منجزه الحياتي للكتابات الأدبية الرياضية… في العام 2014 تسلم جائزة تسمى “جا جي تيلور سبينك”، وفاز بجائزة المجلة الوطنية للأدب والنقد عن كتابه “هذا الرجل العجوز”.
نستنبط الكثير من الدروس من رسالة نيويوركر إلى ماركيز، عن الأقدار والمصائر، ولعل أولها، حتمية أن يمنح الكُتّاب خطابات الرفض التي تلقوها طوال مسيراتهم إلى المتاحف لتأسيس عروض متحفية تليق بمسيراتهم، فبعدما أتاحت جامعة تكساس عبر مركز “هاري رانسوم” أرشيف ماركيز منذ فبراير/ شباط الماضي، حتى يوليو/ تموز المقبل، للجمهور، لم تتوقف المقالات في الصحف الأميركية عن تغطية هذا الأرشيف، وتناولت من ضمن ما تناولت هذا الخطاب الذي أرسله روجر أنجيل، إلى ماركيز، وهو يتحدث عن صعوبة نشر قصته فالمحرر الأدبي في عليائه مع اعترافه بجمال الفكرة في القصة، ودقة تصويرها، إلا أنه مع ذلك أشفق على القراء ونصّب نفسه وصياً عليهم، وقرر عنهم بنفسه أنهم لن يفهموا مقصد الأديب الكولومبي. لغة الخطاب المرسل إلى ماركيز لا تختلف عن لغة خطابات الرفض التي يرسلها محررو دور النشر المصرية والعربية هذه الأيام، وعاينتها بنفسي في بعض دور النشر، وحين قرأت رسالة روجر راودني سؤال وحيد: كيف يتوارث المحررون في مصر والعالم العربي في دور النشر هذه القسوة؟ لماذا لم يبتكروا قسوتهم الخاصة؟
إن كلمات روجر أنجيل لماركيز القائلة: “ونرسل لك ندمنا ونعتذر، ونتطلع بتوقعات غير منقوصة إلى الاستمتاع بمزيد من العمل الخاص بك في المستقبل القريب”، بقدر ما تحوي من اعتذار خجول ظاهرياً، إلا أنها تضمر سخرية لاذعة، واستهزاء بمنجز أدبي كبير، بل إن القصة التي رفضها روجر أنجيل صدرت ضمن كتاب بعنوان “اثنتا عشرة قصة مهاجرة” العام 1976، وحينما تُرجمت قصة “درب دمك على الثلج” بواسطة المترجمة، التي يذكر روجر اسمها في نهاية الخطاب، يبدو أن وكيلة ماركيز الأدبية وهي كارمن بلاسيلز، المذكور اسمها في أول سطر بالخطاب، سارعت بإرسالها إلى النيويوركر لنشرها… ففي المحصلة ماركيز كان يكتب بالإسبانية وليس بالانكليزية، ولم يرسل قصة للمجلة بنفسه، وهذا على الأرجح ما حدث، أن الوكيلة هي الذي أرسلت القصة، بينما ردّ روجر أنجيل على ماركيز لأنه ذكر عنوانه في الخطاب… والملاحظ، أن قرار رفض نشر قصة من قصص غابو(لقب ماركيز) في ذلك الوقت، ربما تكون دوافعه سياسية، فمن السهل هنا مثلاً أن نرد رفض مجلة “النيويوركر” لنشر القصة، لصداقة غابو بفيدل كاسترو مثلاً، وبالفعل هناك ضمن الأرشيف المعروض، صورة لماركيز، وكاسترو، ووكيلة ماركيز الأدبية كارمن بلاسيلز، إذن ولا شك ربما يكون رفض نشر القصة هو رفض سياسي، رداً من النيويوركر على الأديب الداعم لرئيس كوبا، وحليف الاتحاد السوفيتي منذ عقود.
إدمان الكتابة
يقول ماركيز في مقدمته للمجموعة القصصية التي تضمنها قصته “درب دمك على الثلج”(ترجمها صالح علماني الى العربية): “الاثنتا عشرة قصة التي يضمها هذا الكتاب كتبت على امتداد الاعوام الثمانية عشرة الماضية. وقبل أن تتخذ شكلها الحالي، ظهرت خمس منها كمقالات صحافية وسيناريوهات سينمائية، وواحدة كمسلسل تلفزيوني، وهناك واحدة أخرى كنت قد رويتها قبل خمسة عشر عاما في مقابلة مسجلة. لقد كانت ولادة هذا الكتاب تجربة إبداعية غريبة تستحق الشرح، حتى ولو كان ذلك لجعل الأطفال الذين يريدون أن يصبحوا كتّاباً حين يكبرون، يعرفون منذ الآن كم هو إدمان الكتابة شرِه وحكاك”. كأن هذه المقدمة هي الرد اللاذع والسابق لأوانه على محرر نيويوركر.
أصبحت مقتنيات ماركيز متاحة أون لاين، وتحوي ضمن ما تحوي آلة كاتبة ماركة “سميث كورونامتيك 2200، وهي آلة كهربائية اعتمد عليها غابو في الكتابة بمجرد أن أصبحت متاحة في الأسواق. قال ماركيز في مقابلة ذات مرة: “كان يجب أن استخدم الكمبيوتر الأول الذي طُرح في السوق”. وفي مقال من المقالات التي علقت على مقتنيات المعرض، قال كاتبه إنه ربما يكون ماركيز قد استخدم الكمبيوتر في روايته “الحب في زمن الكوليرا” وقد تكون هذه الرواية من بين الأعمال الأولى، إن لم يكن أول الأعمال الأدبية الرئيسة، المكتوبة بالكامل على جهاز الكمبيوتر.
كان ماركيز عبقريا، عمل بجدية على كتاباته طوال حياته المهنية، ومع أنه باع حوالي 45 مليون نسخة من روايته “مائة عام من العزلة”، وأصبح خالداً بوصفه أسطورة في أدب أميركا اللاتينية، فهو تعرض لسخافات واحباطات من النافذين في عالم النشر..
*كاتب مصري