مازن أكثم سليمان*
استخدم الدُّكتور سعيد يقطين مصطلح «الفكر الأدبيّ» أوَّل مرَّة في مقالة نُشرتْ في مجلَّة علامات (جدَّة)، ثُمَّ استخدمه في مقالة نُشرتْ في مجلّة الموقف الأدبيّ السُّوريّة بعنوان: (فكرُنا الأدبيّ: هل يتشكَّل أم تأكلُ الطَّيرُ من رأسه؟ – العدد 339 – تمُّوز 1999).
وبعد ذلكَ، أتى كتابه المهمّ الذي نحن في صدده هنا «الفكر الأدبيّ العربيّ – البنيات والأنساق» الصّادر عن منشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف في العام 2014، ليقدِّم رؤية تنظيريّة وتطبيقيّة مُتكاملة لمفهوم «الفكر الأدبيّ»، كما يراه في الغرب، وفي عالمنا العربيّ.
إنَّ مفهوم «الفكر الأدبيّ» هو واحد من أهمّ القضايا التي يرى المُؤلِّف أنَّهُ لا يُمكنُ تأخير الاهتمام العميق بها، وإلاّ سيبقى واقعنا الأدبيّ على ما هو عليه، مُتأخِّراً عمّا يليقُ بالإمكانات والاحتمالات التي يحبل بها العالم العربيّ، ويزخر بها الإبداع الأدبيّ فيه.
تعريف مفهوم الفكر الأدبيّ وشرحه
يؤكِّد سعيد يقطين أنَّ سبب استخدامه لمفهوم «الفكر الأدبيّ» يعود إلى قصور مصطلح «النَّقد الأدبيّ» في الإلمام بكلّ ما يتعلَّق بالتَّفكير في الأدب بوصفه إبداعاً، وبما يتعلَّق بالاشتغال به، فالنَّقد الأدبيّ يتصل بجزء بسيط من التَّفكير والمُمارَسة المُتَّصلين بالأدب كما يعتقد.
ولهذا، يطمح «الفكر الأدبيّ» إلى إعادة قراءة الأدب والتَّصوُّرات المُرتبطة به في مُختلف العصور بإعطاء الأدب أبعاده المُؤسَّسة على خلفيّات معرفيّة مُحدَّدة، وعبر علاقاتِهِ بمُختلف العلوم، حيثُ يبحث عن الآليّات والإجراءات التي تجعلُ من «الفكر الأدبيّ» فكراً لهُ إطاراته النَّظريّة والمعرفيّة، التي تمنحهُ خصوصيَّتُهُ المُحرِّرة لهُ من التَّبعيّة لأصناف التَّفكير المُختلفة كالفلسفة (فلسفة الأدب) وعلم اجتماع الأدب وعلم نفس الأدب وغيرها.
وفي هذا الإطار، يرى المُؤلِف أنَّ جميع الموسوعات الأدبيّة والمُصنَّفات المُتَّصلة بالأدب وتاريخه، تدرج هذه المُمارَسات على أنَّها جزء، أو مظهر، من مظاهر النَّقد الأدبيّ، أو الدِّراسات الأدبيّة، أو نظَريّة الأدب، ونجدُ أنَّ المُمارسين هم أسماء ينتمون إلى مُختلف الاختصاصات، كأفلاطون، وأرسطو، وهيجل، وهايدجر، مع تودوروف، وغريماس، وغيرهم.
وهكذا، يستجمع المُؤلِّف تحت مفهوم «الفكر الأدبيّ» (باعتباره مفهوماً جنسيّاً) كُلّ أصناف التَّفكير والتَّحليل والتَّأويل المُتَّصلة بالإبداع الأدبيّ. لقد اشتغلَ بالأدب الفلاسفة وعلماء الدّين واللُّغة والمُجتمع والنَّفس والسِّياسة، ويهتمُّ به اليوم، علماء المعلوماتيّة والذّهن والذّكاء الاصطناعيّ، هذا إلى جانب المُشتغلين بالنَّقد والبلاغة والصَّحافة والفنّ عموماً، والمُؤلِّف يريد أن يكون الأدب بذاته موضوع تفكير وتحليل وتأويل، وتكون هذه الاتّجاهات ضمن فروع التَّفكير به، لا أنْ يكون التَّفكير في الأدب مُلحقاً بهذه الاختصاصات المُختلفة.
وتبعاً لهذا المنحى، تتعدَّدُ أصناف التَّفكير: الفكر الفلسفيّ، الفكر العلميّ، الفكر الدّينيّ، الفكر التَّربويّ، ويمكنُ أن يكون «الفكر الأدبيّ» مُتَّصلاً بكُلّ ما لهُ علاقة بما ينتجه الإنسان من آداب وفنون. وبهذا لا يكون الفكر الأدبيّ وليد اليوم كما يرى سعيد يقطين، ولكنَّهُ تطوَّرَ مع الزَّمان، وصار لهُ تاريخه الذي يُمكننا الاهتمام به والتَّفكير في تسطيره بمنأى عن أي تفكير آخَر، أو اتّصال معه، مع الحفاظ على المسافات التي تتّصل أكثر بما هو أدبيّ.
وبما أنَّ لهذا الفكر الأدبيّ تاريخاً، فهو يتغيَّرُ بتغيُّر ما يُسمِّيه المُؤلِّف بـِ»العصر المعرفيّ» الذي يتَّسع لمجمل النَّشاطات الإنسانيّة في مُختلف المجالات، والتي يتمُّ فيها الانتقال من إبدال معرفيّ إلى آخَر. ولا يُمكننا الإحاطة بالفكر الأدبيّ اليوم من دون ربطه بالعصر المعرفيّ الذي نعيش في نطاقه. إنَّنا نفهم ونتعامل مع مُنتجات الإنسان المُختلفة في ضوء هذا العصر، أو ذاك، ولا يُمكننا أن نفكِّر، بطريقة مُلائِمة في الأدب، أو في الإنتاج الإنسانيّ، بصورة عامّة، من دون فهم العصر وتداعياته، وإلاّ فإنَّنا سنكون بمنأى عن فهم روح العصر الذي نفكِّر فيه.
إنَّ الفكر الأدبيّ ليسَ فقط تأويلات ذاتيّة، أو انطباعات شخصيّة عن الأدب، أو الخطاب، أو النَّصّ الثَّقافيّ، أو العلامات، وهيَ التَّأويلات التي ندرجها، في لغتنا العربيّة، تحت «النَّقد الأدبيّ»، أو «النَّقد الثَّقافيّ». إنَّ الفكر الأدبيّ أبعد من ذلكَ، فهو مُمارَسة فكريّة ومنهجيّة لا تختلف عن بقيّة المُمارَسات، سواء أكانت فلسفة أو إنسانيّات أو علوماً طبيعيّة، وهيَ تتَّصل بـ»الإبداع»، سواء أكان أدباً، أو خطاباً، أو علامة، أو فنَّاً من الفنون التي يُنتجها الإنسان. وما لم نسبغ على تلك المُمارَسة البُعد الفكريّ النَّسَقيّ، والمنهجيّ الذي يتحدَّدُ بالتَّفكير وفق الإجراءات العلميّة، سنظلُّ بُعداء عن الفكر الأدبيّ بالمعنى الذي يُدافع عنه المُؤلِّف، وسيظلُّ مُمارَسة «نقديّة»، أو «ثقافيّة»، بالمعنى الدّارِج في مُختلف كتاباتنا، ذلكَ أنَّ هذه الكتابات تفتقد ُ للحمولة المعرفيّة سواء أكانت تحت عنوان البحث العلميّ، أو الدِّراسة الأدبيّة، أو المناهج الأدبيّة، أو النَّظريّة الأدبيّة
توظيف مفهوم الفكر الأدبيّ
الفكر الأدبيّ يهدف إلى استجماع مختلف أنماط التَّفكير في الأدب، ومُمارَسة التَّطبيق عليه في مفهوم عام وجامع تنطوي ضمنه مُصطلحات «نظريّة الأدب»، و»النَّقد الأدبيّ»، و»العلم الأدبيّ»، و»فلسفة الأدب»، و»الدِّراسات الأدبيّة» ومُمارساتِها، فضلاً عن طموح مصطلح «الفكر الأدبيّ» ليدرس تاريخ التَّفكير في الأدب منذ أقدم العصور حتّى الآن.
يستعمل سعيد يقطين مفهوم الفكر الأدبيّ ليُعوِّضَ، من جانبٍ أوَّل، مفاهيم عامّة مثل «الدِّراسة الأدبيّة»، أو «البحث الأدبيّ»، أو «الآداب»، أو ما شاكلَ ذلكَ من المفاهيم (الجنسيّة) العامّة التي ما تزال تُستخدم، عندنا، بكثير من الالتباس والغموض؛ فهي بقدر ما تعني أشياء كثيرة لا تدلُّ في واقع الأمر على شيء مُحدَّد لمَن يريد التَّدقيق أو التَّحقيق، فهذه الاستعمالات المُتعدِّدة تتَّصلُ أحياناً بأنماطٍ من «التَّفكير» في الإبداع الأدبيّ، وأحياناً أخرى بطرائق «تحليله»، وجميع الاستعمالات السّابقة تتناول الأدب من زواياه الفنِّيّة والفكريّة، أو تقارنه بالأعمال الإبداعيّة الأخرى الفنِّيّة والجماليّة، أو تربطه بواقعه وتتنبَّأ باحتمالاته.
ويُوظِّف المُؤلِّف هذا المفهوم، من جانبٍ ثانٍ، ليحلّ محلّ مفاهيم خاصّة، مثل «النَّقد الأدبيّ»، أو «الأدب»، مُضافة إليه نعوت مُعيَّنة، مثل ما نقرأ «الأدب العبّاسيّ»، أو «النَّقد الأندلسيّ»، التي تتجاوز في معظم الأحيان الإبداع الأدبيّ إلى التّاريخ والثَّقافة والحضارة.
قسما الفكر الأدبيّ
إنَّ مفهومي «الأدب» و»الدِّراسة الأدبيّة» مُلتبسان معاً، كما يعتقد المُؤلِّف، لأنَّهُما يتضمَّنان: مجال البحث وموضوعه في آنٍ معاً، ولابُدَّ من التَّمييز بينهُما، بمفهوم آخَر؛ لذلكَ وجدَ المُؤلِّف ضرورةً لتجاوز الالتباس الكائن في ثنائيّة (النَّقد – الأدب) لما لهما من إيحاءات وتعيينات غير شاملة، وغير دالّة على بعض أصناف التَّفكير الأدبيّ. فالنَّقد يظلُّ يُحيلُ على التَّقييم وعلى ذاتيّة النّاقد، والأدب تزدوج فيه الإشارة إلى البحث والإبداع معاً.
وبناءً على هذه الرُّؤية، يقسم سعيد يقطين مفهوم «الفكر الأدبيّ» إلى قسمين أساسيين، لكلّ واحد منهما حدوده وموضوعه الخاصّ، وإن كانا يتكاملان. هذان القسمان هما:
1 – العلم الأدبيّ.
2 – النَّقد الأدبيّ.
إنَّ موضوع «العلم الأدبيّ» هو «الأدب» من حيث خصائصه ومُميَّزاته التي تُميِّزه عن غيره من الخطابات الفنِّيّة وغيرها، وهو يهتمُّ على نحوٍ خاصّ بالكُلِّيّات العامّة، والمُجرَّدة، للخطاب الأدبيّ، بغضّ النَّظر عن التَّحقُّقات النَّصِّيّة الكائنة، أو المُمكنة. والمُشتغل به هو «العالِم» الأدبيّ، تمييزاً له عن «النّاقد الأدبيّ». وهو إلى جانب اهتمامه بالكُلِّيّات العامّة والمُجرَّدة، يعنى بكُبريات القضايا التي لا يُمكن أن يشتغلَ بها النّاقد الأدبيّ مثل التّأريخ الأدبيّ، وقضايا الأجناس والأنواع الأدبيّة، وقضايا تدريس الأدب، وعلاقات الأدب بالمجتمع والنَّفس والدِّراسات المُقارَنة؛ أي كُلّ ما يتَّصلُ بالأدب من قضايا وعلوم قريبة، أو مُجاوِرة، تتجاوز مجاله إلى المجالات التي تنفتح على الخطاب الأدبيّ من زوايا مُتعدِّدة ومُختلفة.
يرمي المُؤلِّف عبرَ إعطاء «العلم الأدبيّ» مكانة خاصّة ومُتميزة في تقسيمه للفكر الأدبيّ، أن يولي «العلم» والبحث العلميّ المُتَّصل بالإبداع ما يستحقُّ من العناية، ذلكَ أنَّ التَّشكيك بإمكانيّة البَحث العلميّ المُتَّصل بالأدب كانت تأتي من زاوية أدبيّة تقوم على اختلاط مفاهيم واستعمالات «الفكر الأدبيّ».
وفي الانتقال إلى المفهوم الثّاني في الفكر الأدبيّ، وهو مفهوم «النَّقد الأدبيّ»؛ يرى المُؤلِّف أنَّهُ إذا كان العالِم الأدبيّ يهتمّ بالكُلِّيّات وكُبريات القضايا المُتعلِّقة بالإبداع الأدبيّ، فالنّاقد يهتمّ بالتَّجلِّيات الملموسة؛ أي يدرسُ (النَّصوص الأدبيَّ) على وجه التَّحديد، وهو في دراسته إيّاها يستلهم مختلف المُنجزات التي تتراكم عبرَ أشغال العالِم الأدبيّ، فالنَّقد يتأسَّسُ في اعتقاد المُؤلِّف على إنجازات البحث العلميّ الذي يتحقَّق في مُختلف العلوم الأدبيّة، وعلى الرّغم من الحُدود الفاصلة بينهُما، لكنَّ كُلّاً منهُما مُستقلٌّ عن الآخر من جهة، ويتكاملُ معه من جهة ثانية.
إنَّ كتاب «الفكر الأدبيّ العربيّ» عبرَ تنظيره لمفهوم «الفكر الأدبيّ»، لا يخلو من الجدّة والخصوصيّة في مساحة الثَّقافة العربيّة الرّاهنة، وهو إذ يُعالج قضايا قديمة/ جديدة على نحوٍ مُختلِف، يفتتحُ بنباهةٍ مرحلةً مُغايرةً في الوعي الأدبيّ العربيّ كما أظنّ، وهو الأمر الذي يُحسبُ بقوَّةٍ للدُّكتور يقطين.
• عن موقع ضفة ثالثة