وسط مناخات التمترس الشديدة العدوانية وسطوة الديماغوجية والفضائيات والمنصات والمنابر التي لا تخفى مصادر تمويلها والاجندات والمصالح التي وجدت من أجلها، وفي حقبة تنوء بارث ابشع تجربة شمولية عرفها تاريخ المنطقة الحديث، ولا سيما منها ذلك الانقطاع الطويل لاجيال عديدة من العراقيين عن العالم وتحولاته القيمية والعلمية الهائلة؛ يصبح مصير الرأي الحصيف والمعلومة الصحيحة والموقف المسؤول، كمصير تلك اللوعة (لا يطاع لقصير أمر). بقليل من التريث بمقدور المراقب والمهتم بجدية لمعرفة ما يجري في المشهد العراقي بعد 1/10/2019 الحصول على معطيات موضوعية وغير مثقلة بالاجابات والشعارات المسبقة. ومن السبل التي يمكن ان تعيننا في ذلك عبارة الحكيم سقراط (تكلم… كي أراك) حيث يمكننا الغور لاعماق غير القليل من المخلوقات والقوى والمصالح والعقائد والجماعات، التي تنطعت وبحماس منقطع النظير للتزحلق على الموجة الاحتجاجية الأخيرة، وتطلعاتها العادلة والمشروعة لاسترداد الحقوق المهدورة.
لقد تناولت مثل هذه الهموم في غير القليل من الاعمدة والمقالات في المنافي زمن النظام المباد، وبعد زواله عبر المشرط الخارجي، وعندما اتطرق للطبقة السياسية الحالية لا أغفل عن المرحلة التي لا يتجرأ الكثير من المتحمسين لـ “الثورات” اليوم من التقرب لكوارثها وأهوالها. لذلك نقول: دعهم ينظرون ويهزجون ويتباكون على ما حصل في الـ 16 عاماً فقط، أي الاعوام التي شهدت زوال فردوسهم المفقود. نعم هي 16 عاماً من فشل وفساد لا الطبقة السياسية والكتل المتنفذة وحسب، بل جميعنا (افرادا وجماعات) عجزنا عن تقويم حالنا واحوالنا، والفضل فيه بالاساس يعود لما قمتم به طوال اربعة عقود من هيمنتكم المطلقة على تفاصيل حياة الناس فيه، عندما سحقتم كل ما له علاقة بالكرامة والحريات (والتي تسفحون دموع التماسيح عليهما) وبالتعددية الثقافية والسياسية والنقابية، وقطعتم كل السبل للتواصل مع ما يحصل حولنا من اجداث وتحولات. كل من ما زال يقبض على شيء من العقل والضمير والانصاف، ستمتلأ روحه تقززا واشمئزازا مما تتشدقون به وبكل خسة وصلافة عن الديمقراطية والحريات وباقي العبارات الجميلة التي لم يعرفها قاموسكم السياسي منذ “عروس ثوراتكم” والى ما انتهت اليه “جمهورية الخوف” التي اسستموها على كم هائل من المقابر الجماعية والانتهاكات الواسعة.
اننا ورغم انف الذاكرة المثقوبة وزيف التاريخ والسرديات الكاذبة وضحالة الوعي وحالة التشرذم وهشاشة اليقظة التي تراهنون عليها، ما زال بمقدورنا التعرف عليكم بوضوح وكما قال اسلافنا قديماً (الوادم مهما سارت بالوادي لابد تطلع للشمس) وفي فلتات لسانكم وصلافته التي لا تقترب ابدا مما جرى من كوارث وأهوال ما قبل الـ 16 عاماً؛ نرى ملامحكم وهويتكم وغاياتكم ومآربكم المشؤومة بوضوح تام. وهذا ما يجب ان يلتفت اليه كي يؤسس لمرحلة جديدة تنتصر فيها الدولة ومؤسساتها وتشريعاتها لكرامة الانسان وحرياته وتطلعاته المشروعة في العيش الحر والكريم. من دون الاتفاق على ما حصل من وقائع واحداث وعلى اساس واقعي وموضوعي ومسؤول، بعيدا عن الانحياز والتمترس الفئوي الضيق، لا يمكن تفكيك عتمة والتباس المشهد الراهن، والتصدي بالتالي لما ينتظرنا من تحديات ومخاطر، هذا ما يجب ان يلتفت اليه جيداً كل من يحرص على ولادة عراق جديد، متحرر من موروثات وفلول الماضي البغيض وسكراب رسائله الخالدة قبل “التغيير” وبعده…
جمال جصاني