غينادي ليتفينتسيف
في عام 1819 أصدر يوهان فولفغانغ غوته (1749 -1832) في مدينة شتوتغارت مؤلفه «الديوان الغربي -الشرقي»، والذي يعتبر استثنائياً من جوانب كثيرة.
بلغ غوته في ذلك الوقت 70 عاماً، وكان معروفاً في جميع البلدان الأوروبية كـ «عجوز فايمار العظيم»، ومؤلف «فاوست» الشهير، وكثير من الروايات، والمسرحيات والأطروحات، وكشاعرٍ غنائيٍّ رائع، شكّلت إبداعاته حقبةً كاملة في الأدب الألماني وأكسبته مجداً عالمياً. وها هو «الديوان» المؤلف من 12 مجلّداً -كتاباً من الأشعار والأنغام الشرقية (العربية والفارسية بالدرجة الأولى)، تضمّ أسماءً وحكاياتٍ غريبة غير مألوفة، ورموزاً غامضة. جدول المحتويات وحده كان كافياً لإدهاش القارئ الألماني وقتئذ: «كتاب المغنِّي-كتاب حافظ -كتاب التفكير-كتاب بارس».
ولمّا كان غوته يتوقّع الصعوبات التي ستواجه القارئ، فقد أرفق مؤلّفه بملاحق ومرفقات معتبرة؛ مقالات وملاحظات لفهمٍ أفضل لـ»الديوان الغربي -الشرقي». وفي مقدمة لـ «المقالات والملاحظات»، صاغ غوته الهدف المتوخى من كتابه على النحو التالي: «نتجرّأ ونأمل أنّنا في
«نشر كتاب «الديوان الغربي -الشرقي» عام 1819، يشهد على «نشوء ظاهرة مدهشة في الأدب العالمي، هي تكوّن توليف غربيٍّ -شرقيّ في الأدب» «الوقت الذي تستوعب لغتنا (الألمانية) مؤلفات الشرق بحرصٍ كبير، سنكون قادرين على شدّ الانتباه إلى تلك الوجهة، حيث يصلنا منها، على امتداد آلاف السنين، ذلك الكمّ الهائل من الروعة، الخير، ومن حيث يمكن يومياً توقُّع وصول المزيد».
يعتقد الباحثون في إبداعات الشاعر والمفكِّر الألماني العظيم أنّه أمضى خمس سنوات في إنجاز عمله هذا.
وعلى كلّ حال، كتب غوته في أيار/ مايو 1815: «منذ فترةٍ طويلة وأنا أعمل خفيةً على دراسة الأدب الشرقي، كي أتعرّف عليه عن كثب، وإنني ألّفت الكثير من الأعمال المصبوغة بروحه. وتتلخّص نيَّتي بأن يتمّ، بصورةٍ طوعية، توحيد الغرب والشرق، الماضي والحاضر، الفارسي والألماني، بحيث تتغلغل الطباع وطرق التفكير في بعضها بعضاً».
لم يكن نداء غوته مفاجئاً، لأنّ الأسباب قد سبق أن وضِعت قبله بوقتٍ طويل على المستوى النظري والفلسفي، حيث بدأت عملية تشكيلها في القرن الثامن عشر، وبدرجةٍ ما، كانت ملامحها قد ارتسمت في نهاية القرن السابع عشر. وحتى قبل غوته، عرف الأدب العالمي لعبة الأقنعة الشرقية، وتطعيم الشعر بزركشاتٍ شرقية -صور ونماذج وشخصياتٍ، وخاصةً في كثير من الأحيان مع الزخرفة، أي سمات الشرق الخارجية. بيد أنّ مأثرة غوته كانت في إكسابه الدراسة والترويج للتراث الشرقي طابعاً ممنهجاً، كما لو كان يغرسه في شجرة تجربة الأدب الغربي، ليكون أول من صاغ مفهوم «الأدب العالمي».
في عام 1827، واستناداً إلى خبرة عمله على «الديوان الغربي-الشرقي»، يقدم غوته تفسيراً للمفهوم التالي: «ما أسميه الأدب العالمي، يظهر غالباً عندما تتماشى (العلامات المميزة لشعبٍ ما)، عبر التعارف مع غيرها من الشعوب والأحكام عنها». ويتابع: «إنني على قناعةٍ أنّه يجري تشكيل الأدب العالمي، وأنّ جميع الدول تتوق إليه، ولهذا ستتخذ إجراءاتٍ وديّة». ويمكننا أن نتفق مع الناقد الأدبي الروسي براغينكسي عندما كتب: إنّ نشر كتاب «الديوان الغربي -الشرقي» عام 1819، يشهد على «نشوء ظاهرة مدهشة في الأدب العالمي، هي تكوّن توليف غربيٍّ -شرقيّ في الأدب».
ووفقاً لبراغينكسي، فإنّ غوته لا يظهر في «الديوان الغربي-الشرقي» كـ»مراقبٍ خارجي، بل كخليفةٍ مبدع لأعظم إنجازات شعراء الشرق، وبشكلٍ خاصّ للشعراء الناطقين باللغة الفارسية». يتفق وهذا الرأي خبيرٌ آخر بإبداعات غوته، وهو أحد ناشري الترجمة الروسية للديوان: «من الصحيح جداًالحديث عن بدايات «تركيب/ اندماج» الغرب والشرق في ديوان غوته، وعن تقاربٍ فريد بين الشعر الألماني والفارسي، والتداخل بينهما، وعن اندماج مبادئهما».
«في ديوان غوته، تتحد بشكلٍ عضويٍّ التقاليد الأدبية الغربية والشرقية، وبأنّ الشرق والغرب يمثلان ثقافاتٍ أدبية– تاريخية مختلفة»تبين أنّ الشعراء السبعة الرئيسيين الناطقين بالفارسية (وهم: الفردوسي(1)، الأنوري(2)، نظامي(3)، الرومي(4)، السعدي الشيرازي(5)، حافظ(6)، جامي(7)، وكذلك عنصري(8)، وحقاني(9)) المصنفين بحسب الباحث الألماني كوزيه هارتينفي، كانوا في مركز اهتمام غوته في مؤلفه «الديوان الغربي – الشرقي». وبالطبع، فإنّ فهم غوته للشرق وفارس بشكلٍ خاصّ مرتبطٌ بدرجةٍ كبيرة بمستوى المستشرقين في عصره. ومع أنّ غوته كان قد درس اللغة العربية، لكنه لم يستطع بطبيعة الحال قراءة المؤلفات العربية المعقدة في القرون الوسطى، فما بالك بالمؤلفات الأدبية الأصلية باللغة الفارسية. لهذه الأسباب، اعتمد غوته على أعمال معاصريه -المستشرقين. ومن هؤلاء بالتحديد اغترف غوته المواد الفعلية للجزء التاريخي من ديوانه. ويجب القول إنّ مدرسة الاستشراق الألمانية، والروسية بالطبع، كانتا الأفضل عالمياً في ذلك العصر.
في ديوان غوته، تتحد بشكلٍ عضويٍّ التقاليد الأدبية الغربية والشرقية، وفيه أطلق غوته فكرته المبدعة، في حينه، عن الأهمية العالمية لهذا الاتحاد، دون أن ينسى بالطبع أنّ الشرق والغرب يمثلان ثقافاتٍ أدبية– تاريخية مختلفة.
يتضمن الكتاب كثيراً من الأبطال الحالمين. وفي الحقيقة، فإنّ كل قصيدة شعرية تحتوي بطلاً ما. بيد أنّ أهمّ بطلٍ بينها هو الشرق نفسه، بكلّ تنوّعه وفرادته، بغموضه وشغفه. ومن المعروف أنّ الشعر الشرقي يتميّز بتعقيده، ولغته المجازية. وهنا نشهد كيف يتم التعبير عن أكثر المفاهيم الخرافية البالغة الدقّة بشخصيات بسيطة تعاني من مشاعر العشق والغرام. ويرى غالبية الباحثين أنّ أول وأهمّ ناقلٍ لفهم العبقري الألماني للشرق كان الشاعر «حافظ».
ثلاثة نماذج
في «الديوان»، هناك ثلاثة نماذج رئيسية: نموذج الشاعر الحامل للحقيقة العليا، ونموذج الكلمة الشاعرية الخالدة المندثرة التي تبعث من جديد -«Stirb und Werde» أي (متْ، وانبعث مجدداً)، ونموذج خدمة المثال الأعلى التي لا تنقطع.
ويتجلى النموذج الأول لنا في مقتطفات «المنبوذين»(10) ما قبل الأخيرة، حيث يشار إلى «رضوان/ خازن الجنة» الذي يقف (على غرار القديس بطرس) عند بوابات الجنّة، ولا يسمح بالمرور إلا للأبطال، الذين ضحوا بأرواحهم في نضالهم للتوصّل إلى الحقيقة. وهذا لم يكن عند غوته معتقداً دينيّاً، بل كان إيماناً بالمثل الأعلى، وإيماناً بالحُلم. وأولئك الذين كانوا مخلصين للمثال الأعلى يستحقون الفردوس بالفعل. بعدئذٍ، يجد النموذج استمراريته في «كتاب الجنّة»، حيث يسأل رضوان الشاعرَ، الذي يطرق أبواب الجنّة، كيف له أن يثبت إيمانه بالحقيقة العليا، وتبيان حقّه بدخول الجنّة. فيجيب الشاعر:
شرّع الأبواب على مصاريعها،
ولا تغضب من القادم.
فقد كنت إنساناً في الحياة الدنيا،
إذاً-كنتُ مناضلاً.
وها هي إذاً جوهرة رومانسية غوته -الكفاح اليومي في سبيل المثل الأعلى، وفي سبيل الحلم! «الكفاح اليومي-مهمّة صعبة!» التجدد الأبدي، تعاقب الحياة والموت:
ولأنك لا تفهم:
أنّ الموت وجد من أجل الحياة الجديدة،
فإنّك تحيا ضيفاً عبوساً على الأرض القاسية.
«تجرأ غوته في «الديوان» على دمج الأفكار الطليعية الغربية مع «الشرق الرمادي»، في بوتقةٍ واحدة»، وبهذا، فقد توصّل براغينسكي إلى نتيجةٍ مفادها أنّ هذا المنتج ليس صياغة أسلوبٍ بارع في روح التجديد والرومانسية، مع شدّها صوب تشخيص الأفكار فنيّاً، بما في ذلك الألبسة الشرقية المبتذلة خاصّة، بل هو تركيب عضوي لعوالم ثقافة وشعر الغرب والشرق، الذي كوّن فضاء أدبياً جديداً من خلال اندماجٍ متناغم. ويؤكد براغينسكي أنّ هكذا تركيب يميّز إبداعات كتابٍ عظماء آخرين، وبشكلٍ خاصٍّ ألكسندر بوشكين.
وبالفعل، تجرأ غوته في «الديوان» على دمج الأفكار الطليعية الغربية في زمنه مع «الشرق الرمادي»، في بوتقةٍ واحدة، ليصهر خصائص الشرق الفنية الرسمية مع الشاعرية الغربية، ويخلق تركيباً غربياً -شرقياً عضوياً. ويؤكد غوته على:
Orient und Occident
Sind nicht mehr zu trennen.
(لم يعد الشرق والغرب قابلين للتفرقة).
ورد في القرآن: «قلْ لله المشرق والمغرب». وكان غوته يحب اقتباس هذه العبارة بطيبة خاطر، فهي تحدد روح الإنسانية المشتركة لجوهرته الشعرية: «الديوان الغربي -الشرقي»، الذي وحَّد، بكلّ ما لدى عبقرية الفنان العظيم من روعة وعظمة، إنجازات ثقافتين -الشرقية والغربية.
• ضفة ثانية