سناء عبد العزيز
تعرّض الفن على مر تاريخه لمحاولات لا حصر لها استهدفت تشذيبه وتحجيمه داخل أطر لا ينبغي له أن يتجاوزها. وحتى أمهات الكتب ومنها «ألف ليلة وليلة» لم تسلم من الحذف والتهذيب أو المنع والحظر. وراح البعض يدافع عن حرية الإبداع باعتباره العدسة المسلطة على أدران المجتمعات وأنه كلما كانت اللقطة كاشفة كانت إيذانا باستئصال هذه الأدران من جذورها، ومن ثم يرتفع المبدع إلى دور المخلص وهو الدور المنوط به بالفعل. ومع ذلك فإن المجتمعات لم تفتقر أيضا إلى رقبائها وحراس مثلها ومبادئها العليا، ما وضع كثيراً من المبدعين تحت طائلة القانون ومنهم الكاتبة التركية المعروفة إليف شفق.
صيد ساحرات
بدأت الحكاية على مواقع التواصل الإجتماعي، حين تداول ناشطون على تويتر صفحة من رواية الكاتب عبد الله شفقي تحتوي على مشاهد اعتداء جنسي على قاصر يرويها المتحرش نفسه، ما أثار غضبا شعبيا هائلا دفع بوزارة الثقافة التركية إلى رفع دعوى جنائية ضد الكاتب بحسب ما ورد على موقع «أحوال تركية». كما تقدمت نقابة المحامين في تركيا بشكوى تطالب بحظر الرواية. وأعقب ذلك تطوع كثيرين لنشر فقرات أخرى مماثلة لكتاب معروفين منها مقاطع لإليف شفق وعائشة كولين بغرض توجيه الإدانة نفسها التي لاحقت الكاتب. ومن هنا، كما ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية، تدخلت الجهات الرسمية وتولى ممثلو الادعاء في تركيا فتح تحقيق مع عدد من الروائيين اتهمت فيه تركيا كتابها بالترويج عبر تلك المشاهد لمثل تلك الجرائم، فيما وصفه نشطاء بأنه تهديد خطير لحرية الإبداع.
«المفارقة تكمن في أنه في بلدنا هذا تزداد حالات العنف الجنسي ضد كل من النساء والأطفال. والمحاكم التركية لا تتخذ أي إجراء رادع، بل حتى لم يتم تغيير القوانين. لذلك في بلد يحتاجون فيه إلى اتخاذ إجراءات عاجلة للتعامل مع العنف الجنسي، يحاكمون المبدعين بدلاً من ذلك. إنها أكبر مأساة. إنه شيء يشبه صيد الساحرات».
هذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها شفق لهذا الموقف، ففي عام 2006، بعد أن أصدرت روايتها لقيطة إسطنبول The Bastard of Istanbul باللغة الإنكليزية وحققت أعلى المبيعات في تركيا، حوكمت الكاتبة بتهمة «إهانة تركيا» بحسب الفقرة 301 من القانون التركي، بعد أن لاحظ ممثلو الإدعاء إحدى الشخصيات في تلك الرواية تشير إلى مذبحة الأرمن في الحرب العالمية الأولى على أنها إبادة جماعية، إلا أن التهم أسقطت عنها فيما بعد.
حرية التعبير وفاتورتها الباهظة
تقول أنتونيا بيات، مديرة مؤسسة PEN الإنكليزية، إن منظمة حرية التعبير «تشعر بقلق عميق» بشأن التهديدات التي تتعرض لها الكاتبة التركية إليف شفق، فهي «كاتبة موهوبة جدا ولا ينبغي أن تكون كتابة الإبداع أو التعليق على أوضاع العالم الذي نعيش فيه بمثابة جريمة»، وبرأيها «تتعرّض حرية التعبير في تركيا بشكل متزايد لتهديد خطير. ويوجد الكثير من الكتاب
«حوكمت شفق بتهمة «إهانة تركيا» بحسب الفقرة 301 من القانون التركي، بعد أن لاحظ ممثلو الإدعاء إحدى الشخصيات في رواية (لقيطة اسطنبول) تشير إلى مذبحة الأرمن في الحرب العالمية الأولى على أنها إبادة جماعية»
وفقاً لناشر شفق في تركيا، دوغان كتاب، فإنها «كانت دائماً كاتبة تهتم بقضايا المرأة والأطفال وحقوق الأقليات.. وإن قضايا مثل التحرش الجنسي وسفاح المحارم هي جروح اجتماعية ولزام على الأدب أن يتناول هذه الجروح الاجتماعية. شفق هي واحدة من أفضل المؤلفين الأتراك الذين يتحدثون عن الضحايا والمجروحين. إن كتبها بمثابة هدايا ليس لنا فحسب بل كذلك للأدب العالمي».
وتصرح شفق أنه «توجد مشاكل مماثلة في بلدان أخرى في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وإننا بحاجة إلى حركة نسائية قوية ووعي بالنوع الجنسي.. وبوسع الأدب القيام بدور مهم في هذا الجدل الدائر ولكنهم الآن يهاجمون الكتاب».
سوء فهم وردع مزدوج للكاتبات
بينما تعترف شفق بورود مشاهد عن الاعتداء الجنسي في بعض رواياتها، فإنها ترفض تماماً فكرة أن هذا قد يعني أنها تتسامح معه أو تروج له، وتمتد المشكلة لتشمل المرأة الكاتبة على وجه الخصوص، حين تتناول قضايا الجنس في أعمالها، ومن وجهة نظر شفق فإن الهجوم على المرأة إذا كتبت عن الجنس جعل كثير من الأديبات لا يتجرأن على الكتابة عن الجنس والإثارة الجنسية إلا بعد أن يتقدمن في السن، إلا أنها أوضحت بأنها ستكمل من حيث انتهى تراثها وستكتب عن كل ما تم السكوت عنه، فهي ترى «أن النساء هن أعظم من يروي القصص، وأنا لم أنشأ في أسرة تقليدية ذات نظام أبوي، وذلك جعلني أكثر استقلالية وأتاح لي فرصة القيام بأشياء كثيرة ربما منعت منها مثيلاتي ممن عشن تحت سلطة الأب».