لا يخفى على المهتمين الفعليين بأمر اليسار العراقي وبنحو خاص من شكل روحه (الحزب الشيوعي العراقي)؛ ما انحدر اليه من حال لا يحسد عليه، لحزمة من الاسباب منها ما هو موضوعي ومنها ما هو ذاتي يتعلق بنوع الزعامات والقرارات والانعطافات التي شكلت ذلك الانحدار. سلسلة من الهزائم والخيبات المتتالية والتضحيات المجانية التي عصفت بحياة ومصيرعدد لا يحصى من خيرة ما امتلكه العراق من ملاكات في شتى مجالات الحياة. كل من ما زال بمقدوره تصفح تاريخ هذا الوطن الحديث بموضوعية ومسؤولية وانصاف؛ سيتعرف بيسر على سر علاقة ذلك اليسار بما يعيشه المجتمع العراقي من حيوية أو انحطاط، وهذا ما انتبه اليه الكاتب والمؤرخ الاميركي من أصل فلسطيني حنا بطاطو في كتابه الرائع (العراق)، عندما خصص أحد مجلداته الثلاث لذلك اليسار بوصفه روح الحقبة الممتدة من الاربعينيات الى بداية الستينيات من القرن المنصرم، تلك المرحلة التي شهدت ولادة أجمل ما عرفه العراق من مشاريع وتطلعات وابداعات في شتى مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية والمهنية والسياسية، وما نصب الحرية الشامخ في ساحة التحرير الا مثال ورمز على ذلك العنفوان الذي توهج ذات فجر.
على العكس من ذلك ما نشاهده اليوم من حال وأحوال يتخبط وسطها العراقيون من شتى الرطانات والهلوسات والأزياء، حيث لا أثر يذكر لذلك اليسار ونشاطاته الذي عدته تقارير المخابرات الاميركية (CIA) أخطر ما يحدث في منطقة الشرق الاوسط آنذاك (نهاية الخمسينيات). لم يتبقى منه سوى عناوين وتسميات ويافطات ومانشيتات وبقايا مخلفات بشرية، ليست عاجزة عن اصلاح ما أفسده الدهر وحسب، بل تحولت هي نفسها الى معيق شديد الفعالية أمام أية انبثاقات يسارية جديدة. ان بقاء ورثة تلك الهزائم والانتهاكات والسياسات الذيلية والمذلة، على رأس القوى التي تمثل من دون وجه حق ما يعرف بـ (اليسار والمدنية) يعني استمرار حالة التشرذم والهوان في المشهد الراهن، حيث تلتبس العناوين والمفاهيم والاهداف والقيم، وعبر كل ذلك يتاح لهذا الكم من الشخصيات المعطوبة والهزيلة، كل الفرص للتعتيم على سيرتها وفضائحها الفعلية المتنافرة وكل ما تكتنزه ترسانة اليسار من غايات وقيم مشرفة.
لقد وصلت الصلافة بعدد غير قليل من ممثلي سكراب المدنية واليسار هذا، لأن ينظموا حملات تزويق وترويج لشخصياتهم البائسة، ومقارنتها بزعامات وشخصيات اممية مثلت منعطفاً في تاريخ مجتمعاتها وبلدانها، من دون أدنى وجع من عقل وضمير، ومن دون الالتفات الى الحضيض الذي تستقر ذواتهم المنتفخه وسطه. ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان فلول النظام المباد وواجهاته الجديدة وغير القليل من القوى والمصالح المتنافرة ووجود يسار حقيقي وفاعل، تدعم وتشارك بمثل تلك الحملات المنظمة لنفخ مثل هذا “اليسار” التابع والمدجن والمثقل بسكراب “الزعامات”، والذي تمتطيه قوى الردة للوصول الى مآربها السياسية البعيدة كل البعد عن برنامج اليسار الحقيقي في الحريات والتعددية والحداثة والعدالة الاجتماعية. علينا الاتفاق أولاً وقبل كل شيء على حقيقة اندثار اليسار وممثليه الفعليين بفعل الانقطاع الطويل عن ارثه النضالي وتقاليده المدونة فيما تبقى من ضمائر وعقول حرة وشجاعة، وان المتقافزين الحاليين على مسرح الاحداث لا يمتون بصلة لذلك الارث المشرق، وهم لا يعدون أكثر من وغف يمد المشهد الراهن بالمزيد من الركود والعتمة والالتباس…
جمال جصاني