لا أشك أبداً أن جميع الناس يؤمنون بالماضي إيماناً مطلقاً، ويحنون إلى أيامه حنيناً جارفاً. ليس لأنه مرحلة منقرضة كما يتصوره البعض، بل لأنه جزء من الحاضر الذي نعيشه، وبعض من الثقافة التي نحياها. وأنا مثل غيري لا أنفك أستعيد لحظاتي تلك، وأتأمل تأريخي ذاك، فمثل هذا الشعور الإنساني سمة عامة يشترك فيها الجميع، من كل جنس وطائفة ولون، وفي كل زمان ومكان!
وهذا لا يعني بالطبع أنني راض عن تلك الحقبة تمام الرضا، أو أنني سعيد بها غاية السعادة، فقد كانت مثل سواها حافلة بالبهجة، عامرة بالمسرات. لكن فيها من الآلام ما لا يعد، ومن المساوئ ما لا يحصى.
ولا غرابة أن أجد في شعر الجاهليين والإسلاميين، ما لا أجده عند سواهم، وأرى في تراث الأقدمين ما لا أراه في غيرهم. فقد اكتسبوا في نفسي درجة عالية من الوثوق، وحازوا على حظ وافر من التبجيل. رغم أن في النصوص التي تركوها الكثير من العثرات والعديد من الكبوات .
وفي رأي البعض أن الناس في الماضي كانوا أشد تصالحاً مع الذات، وأقل إيغالاً في الغربة، وأكثر افتتاناً بالحق. وسبب ذلك هو اليقين الذي كانوا يمتلكونه، والاطمئنان الذي اعتادوا عليه. فكانوا يستهلكون عقولهم لكنهم لا يسألون عن ماهية العقل، ويعتنقون دينهم لكنهم لا يبحثون في أسراره، ويتعاملون مع تاريخهم لكنهم لا يحاكمونه، وهكذا. أي أنهم لم يشعروا يوماً بالحاجة لممارسة النقد. ولم يحاولوا الولوج إلى عالمه الملئ بالأشواك، أو الاقتراب من شاطئه المغمور بالأمواج.
غير أنهم تعرفوا إلى هذه الملكة في العصور الحديثة، وباتوا كثيري التعويل عليها. فوضعوا كل شئ على طاولة التشريح، وآمنوا أن كل فكرة تقبل النقاش. فلم يطمئنوا إلى حقيقة دون برهان، ولا إلى كلام دون قرينة. وابتكروا من أجل ذلك مناهج، جعلت من الشك قيمة عليا، ومن المراجعة تقليداً دائماً. ثم تجاوزوا ذلك إلى الثوابت التي يؤمن بها الجميع، مثل الدين والإله، والحياة والموت، والكون والأخلاق، والحسن والقبيح، وسوى ذلك من أمور. وامتدت أيديهم إلى كل فروع المعرفة، حتى بات لهم في مكان سهم، وفي كل واقعة نصيب!
غير أن كل ما استطاعت الاتجاهات النقدية أن تفعله هو العودة إلى الأصل. فقد اكتشفت أن الشك الذي طبع الحاضر هو مبعث كل شقاء، وأدركت أن الجدل هو سر كل داء. فالتناقضات الكامنة في النصوص جعلت الفوضى سمة لازمة للعصر، ومن النزاع عادة مستحكمة لدى الناس. وما فعلته الحداثة أنها بعد قرون من التفكير والمراجعة والنقاش آمنت أن الهناء الذي عرفته البشرية في الماضي انتهى منذ زمن طويل، وليس بالإمكان العودة إليه من جديد، ولا حتى تصور حدوثه في هذا العالم مرة أخرى.
محمد زكي ابراهيم