علوان السلمان
الكتابة الشعرية.. فعل يعلن عن موقف فيسجل حضوره المتجاوز للمألوف بتعبيره عن حالة مجتمعية ونفسية انفعالية مشحونة بشحنة ابداعية واعية بتساؤلاتها عبر خيال ولغة تقرر الانتماء الى مساحة الابداع الذي هو شرط الكتابة التي يتحقق طيفها بفضاءات جاذبة والفاظ ايحائية منفتحة على آفاق دلالية مشبعة بذاكرة شعرية فيها تتشابك المفردات بنهج خالق لجمله الحالمة..المتجاوزة لواقعها (بانزياح معيار اللغة) على حد تعبير جان كوهن..كونها تعكس فوضى الحواس واعتمادها على لغة مفجرة لطاقتها التوليدية العاجة بالايقاعات (الداخلية والخارجية) بسردية شعرية تسمو باللغة من حيزها الواقعي المتداول الى حيزها التخييلي الخالق لنص غايته قائمة بذاته عبر مغامرة يخوض غمارها الضبابية منتج قلق ليشكل تجربة تسهم في عطائه وتوهج منجزه الابداعي المتكىء على جزئيات الصور…
وباستنطاق المجموعة الشعرية(ولهٌ لها) بنصوصها المفتوحة التي يطلق عليها (نص العصر) بحكم تلاشي الحدود الفنية بين الاجناس الادبية وسقوط المركزيات التي يأتي في مقدمتها الايقاع..
سأحتضن الفراق الاخير وأنام..
فليس ثمة مكان لسيجارة أخيرة تشتعل..
وليس ثمة متسع لقبلة عنيفة لحبيب ينتظر
ملاكه التي غابت في زحمة بحر مع عجوز..
أو قبلة أخيرة خلف باب خزانة الملابس المسافرة.. /ص134
فالنص فعالية انتاجية تسعى الى الانفتاح على السرديات الحكائية والتشكيل والسير والتاريخ….( انه نص محدد المصدر والمستقبل والمعنى..لكن تحديد المعنى لا يوقف مجموعة التفسيرات التي تلاحقه..) على حد تعبير امبرتو ايكو..ولذا قيل عنه النص المفتوح..اما رولان بارت فيرى انه (يساوي علاقة جنسية منتجة).. اضافة الى النص العمودي..(حبيبي سماء الله بعدك ضيق
مداها واسوار على الروح تهطل) / ص76
والعمود الحداثي المتجاوز بنثر التفعيلات..
صباح يليق بعينيك احلى صباح
صباح الاغاني
وقلب يعاني
على العشق جاء
وما عنه راح..)ص66..
والتي نسجت عوالمها انامل الشاعر عمر السراي واسهمت دار عدنان في نشرها وانتشارها/2018.. كونها نصوصا تعددية قابلة للتأويل والانفتاح على مجمل الاجناس الثقافية الابداعية مع اعتمادها لغة السرد كمحرك اشتغال فاعل ومتفاعل في بنائها..فضلا عن اكتظاظها بمضامين انسانية واعتمادها عنصر الحداثة في ايصال رسالتها التي تحاكي وتضفي عليه ابعادا تأملية وجمالية..
قليل من صباحك.. واشتياقي
ونرجس غفوتين مع العناق..
وعطرك لو تهجى بوح عطري..
وفاحا..واستفاقا..
في اتفاق..
لرمشك وهو يغزل رمش صدري..
كمنجات تفوح من التلاقي..
لصوتك لو يؤذن تحت صوتي..
سماوات تذوب من الطباق / ص29 ـ 30
فالشاعر يدخل سايكولوجية التواصل الشعري بوصفها (خطابا غنيا بالدلالة) لتحقيق الامتاع والاقناع في نصه الجامع بين الموقف الشعري والاتجاه النفسي من خلال توظيفه المفردة الشعرية ذات الدلالة الجمالية.. التي تلامس ذاكرته المشحونة بفضائها التأملي..فيقدم صورا ببوح مخزون في دواخله تعكس مدى ارتباطه بموضوعه الشعري.. فهو يمزج في صوره التخييلي والحسي لينتج موقفا فكريا مستعينا بقدرته اللغوية ورؤيته الشعرية المتصلة بطبيعة تكوينه الذهني والروحي..لذا فهو يتفاعل مع واقعه بكل موجوداته عبرتوظيف ضمير الغائب ليجعل من المستهلك حاضرا بوجده ووجدانه..متأملا ومنقبا في ثنايا النص للكشف عن كوامنه وحل رموزه..كونه يشتغل على آليات ابداعية تمزج ما بين الذاتي والموضوعي وفق اشتراطات فنية..
أفكر أن اسرق النهر المنسدل على وجنة المدينة..
أنفض منه ما التصق من ضوء عتيق لمبان خربة..
وأخبئه في صحراء من دم وخراب..
أفكر أن أسرق النهر المنسدل كضفيرتك.. لأشده بها..
فقلبك كبلاد الرافدين..
لا يكتمل الا بنهرين من ورد وحضارة..
فكوني نهري الثالث..
واعلمي ايتها القبلة الطازجة كاندلاع الصباح.
أنك أنى حملتك الريج..
سيكون هطولك في شفتي..
أحبك.. ص37 ـ ص38
فالنص يحاول الانفتاح على عوالم متنافذة بمستويات متفاوتة يعتمدها المنتج (الشاعر) في بناء نصه الشعري ابتداء من الفكرة ..مرورا باللغة والصورة..من خلال تعبيره عن ذاته والذات الجمعي الآخر وتصويره للاشياء والاحداث بطريقة تستفز المستهلك(المتلقي) وتسهم في نبش خزانته الفكرية للتأمل والتأويل.. من خلال قدرته الفكرية المحافظة على نسقية شعريته ابتدا من البنية المتمثلة بالايحاء والاستعارة والتعبير الصوري المستفز للذاكرة المستهلكة مع توظيف بعض التقانات الفنية والاساليب الابداعية كاضافة خلاقة في المبنى النصي.. كالتناص (النص الغائب) على حد تعبير محمد عزام.. والذي يعده عبدالله الغذامي (نص يتسرب داخل آخر ليجسد المدلولات سواء وعى الكاتب بذلك أم لم يع)..اضافة الى التكرارالدال على التوكيد والمضفي على النص نبرة موسيقية مضافة..وهناك التنقيط (النص الصامت) الذي يستدعي المستهلك (المتلقي) لانطاقه بملء فراغاته. فضلا عن التمرد عل القوانين الشعرية والاشكال التقليدية وتجاوزها بقلب الموازنة النفسية بين(الانا) ضمير المتكلم و(الهو) ضمير الغائب(الذات والذات الجمعي الآخر) برحلة وجدانية ما زجة بينهما..
لو اني كنت يديك..
تحملني نرجسة تتوضأ بالمطر التشريني لأزهر
عطرا في شفتيك
لو أني لوحة عشق تتجول بين عواصم هذا الكون..
أو أغنية تطرق باب السهرانين وتمسح عن خديك
بكاء اللون…
لو أني أنبخر كي أمطر كالظل عليك..
أترك قلبي..وأعيش دموعا في عينيك..
لو أني كنت يديك.. /ص91 ـ ص92
فالنص يحتضن فكرة ثنائية الوجود عبر حدثه المكثف لتحقيق الاثر الكلي مع الاحتفاظ بوحدة موضوعية تتناسب والموقف الفكري وانعكاساته الوجدانية….لذا ففضاء النص يكشف عن المعنى الحدثي الذي يمنحه ديمومة توليد المعاني والدلالات من المشاهد التي يؤسسها المنتج عبر(لو) اداة التمني..والخيال الرؤيوي والكثافة الدرامية.. مع سيطرة المؤثرات الخارجية التي اسهمت في بلورة الفكرة والاستغراق في عوالمه والاندماج بوجدانه وحضورها في صوره ودلالاته بلغة تمتلك مؤثراتها الجمالية وقدراتها التوصيلية المانحة للصورة الشعرية المكتنزة بمضامينها النفسية والاجتماعية التي تتفاعل ومنظومة القيم الجمالية..
وبذلك قدم الشاعر نصوصا تتسم بالوعي الفكري من خلال موقف واع لمعطيات الزمن السابحة داخل اطر دلالية..مع توظيف الفنون الابداعية والجمالية الفاعلة والمتفاعلة والبناء النصي المتسم بالجدية وعمق الايقاع مع تتابع الصور وتداخلها برؤية متناغمة الرؤى في انساق مكتظة بالحيوية من خلال سياق حسي متواصل والحياة بكل موجوداتها..