حميد الحريزي
القصة هي عملية تظهير حدث أو ظاهرة أو حالة الإنسان أو حيوان أو نبات وحتى الجماد عبر اللغة بصيغتها الإبداعية الجذابة وليس بصيغة الحكي العادي البسيط، بمعنى هي ليست صورة فوتغرافية للحال والسلوك الظاهرة وإنما هي بالإضافة للتوصيف هي عملية استبطان وداخل الفاعل والمنفعل، انفعالاته، تهيؤاته، تساؤلاته، تحولاته، وقد استنطق الأدباء حتى الجماد وأنسنة لتوصيف مشاعره وانفعالاته في حدث ومكان معين.
ممكن أن يروي أكثر من شخص هذا الحدث أو هذه الظاهرة، يمكن أن يحكيها لك أحدهم دون أن يترك لديك كمستمع أو كقارئ أي صورة عن انفعالات وتبدلات من حيث الشكل والسلوك للفاعل وكذلك الشخصيات الثانوية المشاركة، فتكون ردة فعلك باردة غير منفعلة وغير متفاعلة، وتترك في مخيلتك أية صورة عن الحالة.
في حين يرويها آخر يمتلك خيالاً وخزينًا لغويًا ومعرفيًا ثريًا وقدرة على التوصيف والاستبطان والتصوير ويمتلك إحساسًا جماليا رفيع المستوى، فيجعلك تتفاعل مع الحدث ومنشدًا للحكاية سواء كان الحدث بهيجًا سارًا، أو حزينًا، الفهم والتساؤل، القناعة أو الشك القبول الفرح أو الرفض الغاضب. القاص يستغفلك كقارئ فيأخذك إلى تصور وتوقع لفعل أو نهاية تشاكس سياق السرد فتكون نهاية صادمة او مفاجئة لك كقارئ ومتلقي، فتضيف للقص مزيدًا من المتعة عبر استغفال محبب للنفس، إشراقة وومضة إبداعية وإعجاب في ذكاء وقدرة القاص على الايهام، وتمكنه من التلاعب الجميل بتصورتنا وانفعالاتنا، كمن يغمض عينيك ليضع بين يديك هدية غير متوقعة.
القص فن جميل ممتع وسهل ممتنع لغير أهله، يتطلب من القاص أن يكون نابهًا حساسًا دقيق الملاحظة، واسع الخيال يميل للتكثيف والاختزال بعيدًا عن الثرثرة رشيقًا لا يحب الترهل والإسفاف. وأن يمتلك حسًّا وإحساسًا جماليًا شعريًا في اختيار مفرداته اللغوية، ليشعر المفردة بالرضا إن لم يكن شعورها بالبهجة والفرح والامتلاء التام بمعناها وهي في سياق الجملة المصاغة من قبل القاص، يزفها للقارئ راضية مرضية فتنقله إلى فضاء الجمال والخيال المشبع بالمعنى والدلالة الخصبة.
القاص عبد الكريم الساعدي يسعدنا وهو يطلق أمام عيوننا (بلشونه) الجميل، وكل ريشة من ريشاته تشع جمالاً ودوال وبهجة، مغمسة بماء الورد وعطر السعد ونقاء وصفاء الحضور الطائر في فضاء المحبة والخيال الخصب.
الساعدي يدهشنا حقا في قدرته الابداعية كصائغ ماهر في صياغة وصناعة الجملة، يجملها بشذرات بالغة الجمال من جواهر الكلم المنعش للروح والعقل.
(امرأة تضيء مفاتنها ظلمة الفراغ، ممهورة بالغنج)، (عشب جسدها المتوهج بالإغواء)، (تستقي من وجه الصباح دثارًا لخطواتها). (يرتدون البرد جلبابًا، فيرتسم الدمع سلامًا على خديها، تبتلع رضاب الترقب يلفحها سموم الجواب)، (كان ينزف وردًا أحمر)، (يطارده صدى النهيق، يلغم خطواته بدمع وجعه)، (الشارع يمشي تحت أقدام الحفاة )، (الرصيف ينحني خجلاً)، (فارشًا موائده في ظل مواكب الصمت)، (خطواتها مهد من دمع)، (أتوضأ بحروف قراءتي الخلدونية)، (الأراجيح وحدها ظلت باكية، تهرق دمعها، تنشد ألواح حتى مطلع القيامة).
الله الله ما أروع هذا العزف باذخ الجمال من حيث الصورة والدلالة، هنا نلمس ونحس وندهش والكاتب يؤنسن الحروف يجعلك كمتلقي تعيد قراءة الجملة أكثر من مرة لتمتع عينيك بصورة ولا أريد أن أعيد عرض هذه الجملة التي أشعرتنا بعطر أنفاسها كثبان من النساء، ترتل جمالاً، عطر يشكو، أتوضأ بحروف، مهد من دمع… الخ سلسلة من نور يسر الناظرين.
أمام هذا الجمال الباذخ ليس لقلمي إلا أن يرفع قبعته إجلالاً واحترامًا وإعجابًا بهذه القدرة الكبيرة على التعبير والتصوير، فالساعدي يموسق ويؤنسن المفردة شعور، المفردة إحساس، المفردة روح، المفردة ضوء.
أما الجانب الثاني في مجموعة عودة البلشون هو مضمون قصص المجموعة التي سنعرض باختزال شديد لمضامين بعضها ولا نقول أهمها بما يناسب المقال وفسحة المجال، نتمنى عليكم قراءة المجموعة والتمتع بجمال قصصها: –
ايقونة الدفء ص9-12
، أنسنة المعطف توصيف (لمشاعره) وهو يرقب من يشتريه وهو في محل بيع الألبسة، هو الأنيق الجميل باهظ الثمن، كيف يعرض مفاتنه ومواصفاته المغرية على المشتري، يتنقل من على اكتاف الزوج الخائن، تشوهه الخادمة بالمكوي فيتعرض للحرق، يكون من نصيب أول فقير يطرق الباب، ومن ثم يعرض للبيع في (اللنكات) يكون من حصة سكير حيث يعاني من الإهمال ومزيدًا من الوساخة والعفن، يمزقه الانفجار إلى قطع متناثرة، ترمى في براميل القمامة لتكون غذاءً للقوارض.
إشارة إلى التحولات والتغييرات التي يتعرض لها كل شيء في الحياة وينتقل من الرفعة إلى الابتذال والإهمال حد التلاشي، وربما يحدث العكس هذه هي الحياة، القصة تعرض لنا التراتبية الاجتماعية أهل ثراء كبير رغم أنهم مبتذلين أخلاقيًا، وفقراء يفتك بهم البرد والجوع، وآخرين يعيشون على الهامش كما هو حال السكير الذي لا يسلم من جنون العنف والإرهاب فتمزقه شظايا الإرهاب دون أن يحفل به أحد.
توهم ص 13-15
حنين وشوق لحبيبة غائبة، بعد اللحاق بها صدفة / يصدم أنها امرأة ثانية هنا المفاجأة والصدمة.
دمع الأراجيح ص17.
- أيهم أنت يا ولدي؟ من يدلني عليك؟
أم تفقد ولدها نتيجة العنف المجنون، لا يمكن أن يستدل عليه أحد بين عديد القتلى والمقطع أجسادهم والمشوهة رؤوسهم والمحروقة معالمهم، مثل هؤلاء لا يمكن أن تستدل عليهم إلا أمهاتهم من رائحة أجسادهم فهم قطعة من جسد الأم
(الأراجيح وحدها ظلت باكية، تهرق دمعها تنشد النواح حتى مطلع القيامة.)
توصيف ولا أرع ولا أوجع منه لحالة القتل المجاني للأطفال للحياة.
أحدهم يتوهم انه صار طيرًا (كان الهور يمنح ضمد سحر الطلاسم والأساطير، يبشر بغيابه، بينما هو يلوذ بالصبر مذ أتى مملكة الوجع، يحلم أن يكون طيرًا فحسب بيد انه لا يدري أسكن جنوب الوجع، أم سكن الوجع حنوبه؟؟)
للخلاص من فقره وبؤسه ومعاناته بالمقارنة مع طيور الماء الحرة الفرحة السابحة في الهور والقادرة على الطيران والهجرة من قارة الى اخرى حينما لم تعد الحياة تطاق في المكان، وحينما يأتي موسم الطيور في الشتاء (عند امتزاج خضرة الطائر البراقة باللون الأخضر للقصب والبردي ينزلق في حلم تتكحل السماء باللازورد، عيناه تجوبان الفضاء المديد كطائر مهاجر، تعانقان نجم سهيل، يمد زمانه نحو سرب الطيور، يخلع ثوبه، يرتدي جبة حلمه، يزحف على بطنه، يتكور، ينبت له ريش ملون جميل، يستطيل أنفه، يصبح منقارا، أصابعه تتقلص، تلتصق بطيات جلدية، يصفق في الهواء بجناحيه…) يستمر القاص بوصفه الساحر لتصوير أحلام هذا القروي الحالم بالحرية والتمتع بالجمال والسلام، يفاجئه صوت إنسان ينتفض من قبره، يهرب ضمد فزعًا وخوفًا(وبلمح البصر يختفي بين اكمات القصب والبردي بلا عودة، لا يدري، أصار طائرًا أم أصبح طائر الخضيري ضمدا؟
ينص مشبع بالخيال، بين الحلم والواقع، بين العجائبية والواقعية المسحورة.
غزوة الحرمان ص 25
(امرأة تضيء مفاتنها ظلمة الفراغ، ممهورة بالغنج)
حلم الحرمان للتماهي مع صورة جدارية معلقة على جدران الامل، يهب بعيدًا في حلمه، يسكر في فضاء الخيال والمتعة وما يعود إلى وعيه والحب المكبوت، محاولة تعويض الحرمان بالإمعان بالخيال وتفريغ الرغبة بارتعاشة وهمية.
عذراء شنكال ص29
(تستقي من وجه الصباح دثارًا لأخواتها)، توصيف دقيق مشبع بالألم، لمعاناة الأسيرات من المسيحيات والأيزيديات من قبل (داعش) الإجرامي قتل الأحبة الازواج الاباء الاخوان، وساقوا الفتيات سبايا من قبل وحوش دولة الخرافة كما اسماه الروائي عبد الرضا محمد صالح.
(لقد نحروا سعيدا عند منعطف جنوني، كان ينزف وردا احمر… ساقونا جواري لأسيادهم في ظل غرائزهم الوحشية)، تغتصب تنتهك عذرية وبكارة الفتيات الأسيرات (تتعثر بانطفاء بكارتها)، ولكنها تظل تحلم بالعفة والطهارة رغم دنس الوحوش.
سرد مبهر ومفاجأة مدهشة.
وهكذا تستمر قصص المجموعة تنثر على القارئ زهور المتعة، وصور الحكمة والإدهاش، وعمق المعنى في (صمت)، (انتظار)، (ثقب المرآة)، (خريف المهرج)، (عطب)، (عودة البلشون)، (رجل سيء الحظ)، (عندما يرقص زوربا) ، (الرفيق ديون يسوس)، (عزلة)، حنين النوارس)، (ندم)، (طقس عبثي)، (آسف حدث سهوا)، وهو عنوان لأخر قصة تتحدث عن بعض الهفوات الخطيرة التي يقع فيها بعض أحبتنا الأطباء، حيث تختلط عليهم اوراق فيكون الشخص السليم مريضًا، والمريض سليمًا فبعد ثلاثة أشهر وهي الفترة الباقية من حياة الرجل الستيني حسب ما اخبره الطبيب (يستيقظ على صراخ مخيف، يصدر من بيت جاره، يعلن موت نبيل) ونبيل هو الشخص الذي اخبره الطبيب بأنه سليم معافى، وحينما يستعلم من الطبيب حول الأمر يخبره (آسف جدا، حدث سهوا) فـ (يزم شفتيه بعصبية، يبصق في ورقة التحليل، يزيح كابوسًا مرعبًا بابتسامة هازئة بما تبقى من سنين) ص91.
نعم هكذا هو القص حيث المفردة الجميلة، الصورة المعبرة، الحبكة الرصينة، الدلالة الغنية بالمعنى، القفلة المدهشة، يبدو لي الساعدي يسبح بأريحية في بحر لغوي وثقافي زاخر بجواهر الكلم، جمل قصيرة، متلاحقة متحركة، رشيقة، للفعل الهيمنة في السرد، فعل المضارع سيد الافعال.
إن موقد قلبه نار إبداع لا تخبو، نار إبداع هو يمتلك حطبها ويمتلك عيدان الثقاب اللازمة لإشعالها ولا يستعيرها من أحد وكما يقول رسول حمزاتوف ((يمكن للإنسان أن يطلب اعواد ثقاب من جاره كي يضرم النار في موقده، لكنه لا يمكن للانسان أن يطلب من اصدقائه أعوادا تضرم النار في القلب)) رسول حمزاتوف رواية بلدي-الفارابي ط3 2006 ص 83. تعريب عبد المعين الملوحي، يوسف حلاق.