الذاكرة المتقدة في.. سيدات القمر
يوسف عبود جويعد
جعلت الروائية جوخة الحارثية من روايتها (سيدات القمر) ساحة تشبه الى حد بعيد، ساحة كرة القدم، من يدخل في متنها عليه أن يلعب، أن يركض، أن يتحرك، أن يكون له دور بارز وواضح، لايوجد في هذا النص شخوص لاحاجة لهم، كلهم ضمن الاحداث، وضمن السياق الفني، وضمن حركة السرد، ومبنى النص، وهي رواية مكان وشخوص، وحكاية لأُناس عاشوا في بلدة العوافي العُمانية، التي لها وقع وتأثير واضح في ذهن وعقل وروح الروائية، التي زجتنا وسطهم بين شيخ وتاجر، وعبيد، وأحرار، ونساء من كل لون،يمارسن حياتهن وفي مقتضيات وتقاليد وطقوس هذه البلدة، التي إستطاعت الروائية أن تمسكها من أطرافها وتفرشها في ساحتها السردية لتطلق شخوصها يمضون بتقديم حيواتهم وفق سياق هذا النص، وما تقتضيه حركة الاحداث وثيماتها، وقد إختارت لغة سردية بسيطة وخفيفة ومعجونة برائحة الارض التي انبثقت منها، كونها مطعمة بلغتهم وأساليب التحاور فيما بينهم،وكذلك طعمتها ببعض المفردات التي ترّسخ وتثّبت هذه البيئة وتجعلها أكثر قرباً للمتلقي، ليكون معهم في خضم حركة دؤوبة تشبه حركة خلية النحل لاتكل ولا تمل، لتضمن التفاعل الذي يجب أن يتحقق بين الروائي – السارد – النص – المتلقي ، وتضمن ايضاً أن تتعاشق تلك العناصر، لكي تتيح لها حرية أكبر في عملية السرد، وتقديم الحكايات،، فمن دخل هذا النص عليه أن يؤدي دوره بالشكل المطلوب، فهي ( وأقصد الروائية) تنسج عالمها في هذا النص أمامها، وتشرف على تحركاتهم وكأنها تحاسب من يكون كسولاً، أو من يتقاعس في تأدية مهمامه الموكلة اليه، وفي ذلك سر من أسرار نضوجها، ورغم أن أحداثها لا تستند على بؤرة كبيرة وواسعة ذات مساحة من تلك التي تخلق صراعات كبيرة داخل النص، لكنها تستعرض أمامنا واقع حياة بلدة العوافي بكل تفاصيلها، وقد إختارت في عملية التدوين وتقديم الحكايات التي تنضوي في ثنايا هذا النص بزواية نظر وأسلوب فني فيه من الحداثة والتطور الشيء الجديد والذي يفضي الى وجود جهد فني واضح، وذاكرة حديدية ملفتة للنظر، كونها تمسك بالتفاصيل الدقيقة ومدى إرتباط تلك الواقعة الآنية بالماضي فتستحضرها لتكون مكملة لها، ثم تعود لتكملة حركة الاحداث وتنطلق مرات ومرات بين الحاضر والماضي، وأحياناً تكون مع الماضي لتستحضر الوقائع الآنية فتسحبها الى الماضي لتقدمها من هناك من عمق الماضي السحيق وهكذا هو ديدن الاحداث والتحركات التي تدور في ثناياه، كما نجد في هذا النص المستقطع من متن الرواية:
(حين خرج أبوها من الغرفة بكت الرضيعة فحملتها ميا الى صدرها،هل تشبهها فعلاً؟،بعد ثلاثة وعشرين سنة حين ستكسر هاتفها النقال وتضربها لن يكون بينهما أي شبه،الا في السمرة والنحافة، ستكون لندن أطول وأجمل وحكاءة لدرجة الثرثرة، ستكون هذه الغرفة ملاذ جدها في ستينياته،وقد تلاشى الازرق الزيتي وحل محله صبغ مائي خفيف) ص53
وهكذا فأن عملية تحريك الاحداث لاتأتي بصورة منتظمة من الماضي الى الحاضر، وإنما عمدت الروائية التلاعب بالازمنة بهذه الطريقة تستحضر الماضي مع الحاضر وتستحضر الحاضر مع الماضي وحسب مقتضيات الحكاية والاحداث التي تدور، فهي تقدم لنا وقائع حياة هذه الغرفة ومن سكنها وكيف كانت؟ وكيف ستكون، لأن حركة المكان هو الجزء الذي يشكل لدى الروائية الاهمية الاولى التي تعتبره قاعدة للانطلاق.
وكما أن الشخوص الذين ليس لهم لازم داخل الاحداث لا تحتاجهم ولا تريد أن يدخل الساحة الا لمن يلعب، فالساحة أعدت للحركة، فإن على المتلقي أن يكون ذات ذهن متقد ومواضب على متابعة الاحداث دون كسل لكي يلم بتفاصيل الحكاية ويعرف المكان الذي ضم مجموعة كبيرة من الشخوص، الشيخ سعد، والتاجر سليمان، وعزان، ولندن، وحفيظة، وعبد الله، وعنكبوت أم حفيضة العبدة سوداء اليشرة التي قدمت من افريقيا لتلد حفيظة فتكون آمة لدى شيخ سعد، وأسماء، وخولة شقيقات ميا، ومريم زوجة القاضي يوسف،والقاضي يوسف ، لكل هؤلاء وغيرهم لهم خكايات تدور أحداثها ضمن الاحداث الرئيسية حكاية ميا وإبنتها لندن، وحكاية المكان بلدة العوافي الذي كان ينشر سحره بين السطور، من خلال رفدنا بتفاصيل دقيقة عن العادات والتقاليد وسبل الحياة في هذه البلدة، فكل مكان في هذه البلدة يتحرك مع الشخوص وفق السياق الفني ليكون حاضراً في الماضي، ويكون ماضياً في الحاضر، بتحركات آنية غير مطولة كما ورد ذكره سالفاً.
لم تكن الاحداث التي تدور في متن هذا النص، قد تعاملت معها الروائية وفق السياق التقليدي لحركة السرد العمودي أو الافقي، وإنما يشبه الى حد بعيد رج الحصى في الإناء الذي يتيح ويضمن تحركها جميعها دون ان تتخلف او تتوقف أي حصاة من الحركة الدائبة، وبهذه الطريقة يكون مسار السرد مستمراً في الصعود وتحريك الاحداث والشخوص بطريقة الرج التصاعدي.
كما تجدر الإشارة هنا الى وجود اوجه تشابه كبير بين هذا النص، ورواية (ساعة بغداد) للروائية شهد الراوي، حيث أن كلا النصين قد اتخذا المكان والشخوص سياق عمل لإعداد النص، أي انهما روايتا مكان وشخوص، الا أن الروائية جوخة الحارثي جعلته مغايراً تماماً من حيث المكان والشخوص مع الإختلاف الواضح في طبيعة حياة كل بيئة، والإسلوب الفني الذي إختارته في معالجاتها الفنية.
وهكذا فإننا نكون مع ميا وهي تناجي ربها وتقسم له به، بأن ستواظب على الصلاة إذا حظيت برؤية فتى أحلامها (علي) مرة اخرى، ولا تريد شيئاً سوى رؤيته، الا أنها تستسلم بصمت رهيب وسكون غريب للزواج من أبن التاجر سليمان دون أن تبدي أي إعتراض، وهكذا نجد إستغلال اللحظة الآنية المعروضة لكي تكون طوافاً بشكل منتشر نحو الاحداث، فبينما كانت ميا تعيش حالة المخاض لولادة لندن، تتذكر حديث إمها عن عمليات ولاداتها لأبناءها فهي إبنة شيخ ومن المعيب أن تلد وهي راقدة على السرير عليها أن تلد وهي واقفة ودون أن ينكشف جسدها على أحد حتى على الداية التي تولدها، وهكذا يسقط الجنين بعد مخاض عسير لستقبله الداية من بين ساقيها، ثم تعود لإختيها اسماء وخولة وهن يتحدثن عن الزواج والعرس وكيف إنها ستفارقهن، ثم تغور أكثر لتتذكر فارس احلامها الذي لم تشبع من رؤيته، ثم تنطلق الى المستقبل لنرى لندن وقد كبرت ودرست وتزوجت وفشل زواجها، وهكذا هو ديدن حركة السرد داخل هذا النص، كما تتضمن تلك الاحداث العادات والتقاليد وطرق التعامل مع المرأة حديثة الولادة،أي (النفساء) والطعام الذي يجب ان تتناوله وامور كثيرة اخرى ستجدونها عندما تتابعون النص.
وهكذا نكتشف أن عملية زيجة البنات في هذه البلدة، تتشابه فإن مريم تزوجت القاضي يوسف بذات الطريقة، حيث احضرت لها أمها اقراط وحلى من فضة واخبرتها بزواجها منه، وعندما زفت اوصتها امها ان لاتكون بطيخة جاهرة وتستسلم بسرعة وعليها أن تقاوم، وهكذا ظلت شهر كامل تقاوم من أجل أن لاينال منها ولكنها في الاخير إستسلمت.
وكذلك نعيش تفاصيل كبيرة وممتعة وغريبة عن حياة عنكبوتة ام حفيظة ورحلتها من افريقيا الى بلدة العوافي ، وحياة هلال والد التاجر سليمان، وحياة إسرة ميا،بذات الاسلوب الذي إتخذته الروائية دليل عمل فني لحركة السرد.
كما نجد توظيف الموت كحالة مرتبطة بالاحداث وفي متن النص، لكون هؤلاء الذين رحلوا الى الملكوت الاعلى، كان لهم دور في مجريات النص، كما سوف نكتشف ذلك في المقطع الاخير من الرواية:
( أخذ أبي الصوط من يدي ،ورماه في البحر،قلت له « لكنك ميت، كيف عدت؟» فمضى ولم يلتفت صحت فيه « خذه معك، خذ محمد معك يا ابي»
أظلمت الدنيا، سمعت صوت سيارتي وهي تنطلق مبتعدة، لمحت لندن خلف المقود، حملت محمد بين ذراعي، وفكرت أنه مثل السمكة، اقتربت من البحر الهائج، وغصت فيه حتى صدري، حين فتحت ذراعي انزلق محمد مثل السمكة، ورجعت دون ان ابتل) ص 228 .
وهكذا نكتشف معالم التميز والمعالجات الفنية، والجهد الفني الواضح من لدن الروائية جوخة الحارثي، في نصها السردي الروائي (سيدات القمر) الذي حاز على جائزة البوكر مان العالمية لعام 2019، لأنها إستطاعت أن تدور دفة الاحداث بذهن وذاكرة متقدة لتلم بكل تفاصيله وتعبر حدود القيود التي طالما خشاها السارد، وتنطلق بكل حرية وبمساحة واسعة تسع حياة بلدة العوافي فتقدم اللحظة للصورة المعروضة مع كل تشظياتها التي تنتشر الى كل الجهات لكي يلم المتلقي بكل ما حدث فهي تضع الشخوص في هذا المكان، كما يحدث في الساحة الرياضية لكرة القدم، وما أن تنطلق صافرة البدء يتحرك الجميع دون تلكؤ او كسل لتكون حركة السرد دائرة بكل قدراتها.
من إصدارات دار الاداب للنشر والتوزيع لعام 2019