محمد رشيد السعيدي
هكذا رُسم العنوان على غلاف الرواية، والمفردة الأولى أكبر حجما من المفردتين التاليتين، ليثير بعض الأسئلة، التي ربما لن تجيب عنها الرواية، أسئلة فنية لا إشكاليات، مثل: ما هو الصليب؟ ماذا يعني؟ وإلامَ يرمز؟ هنا، ما علاقة الصليب ببيئة المؤلف؟ المكشوفة من اسمه ولقبه، فهو مسلم جنوبي، ينتمي الى إحدى القبائل العراقية/ العربية التي تسكن في أعماق الأهوار، وهي قبيلة بني أسد، التي تسكن في هور الجبايش. ربما يمكن افتراض وجود خطأ مطبعي، أو غيره، إذ في الرواية حدث هو: عملية صلب، أي الإعدام شنقا، هكذا في العامية العراقية يقال صِلْبُوه، أي شنقوه.
أما السؤالان الإشكاليان اللذان يطرحهما العنوان، فهما: هل للرواية عنوانان؟ ولماذا؟ هل تحتاج الرواية – أية رواية – الى عنوانين، مثل بعض الفنون الصحفية، ومثل الدراسات والكتب النقدية، وتبدو هذه التقنية في الطريق لتكون ظاهرة، فقد وردت في بعض الروايات الحديثة، مثل (مصل الجمال أولاد كلب) للروائي عبد الزهرة علي، والصادرة سنة 2018، ألم يكن كافيا عنونة الرواية بـ (الصليب)، أو (الصلب) فقط؟ أو بـ (حلب بن غريبه) فقط؟ لم تجب الرواية عن ذلك السؤال، لكن القراءة قد تذهب الى محاولة توكيد الاضطهاد الذي سيتعرض له بطل الرواية، الإشارة التوكيدية منذ عنوان الرواية، والسؤال الثاني هو: لماذا كتبت غريبة بالهاء؟ وفي العنوان تحديدا؟ ربما هو خطأ مطبعي، وربما لم ينتبه المؤلف الى أنه كتب الاسم بالهاء أحيانا، وبالتاء أحيانا أخرى، وبعدم وجود محرر متخصص، وفي زمن حرية النشر في العراق المعاصر، القراءة تذهب الى عدم استقرار الكاتب على صيغة الكتابة، باستثناء عدم الاهتمام أو الانتباه، أو قصدية المؤلف – ذكاء – باستخدام الصيغتين: الفصيحة والعامية، لإثارة انتباه القارئ، أو لمناسبة البيئة واللهجة المحلية.
ثم الاسم، وخاصة غريبة، والذي ستعرّفه الرواية بأنه اسم أم حلب، نعم هو اسم نسائي معروف، وإن كان غير شائع، لكن السؤال الأهم: لماذا كتب بالهاء؟ واللفظة أصلا عربية فصيحة، إلا اذا تم اللجوء الى كونه يلفظ هكذا في حكي العامية العراقية.
تنتمي هذه الرواية الى الرواية الريفية، بيئة أو مكانا، كما أنها قريبة من الايديولوجيا القائمة على الصراع بين الطبقات الاجتماعية، المقسَّمة على أساس اقتصادي، وإن استفاد المؤلف، ووظّف خصوصية اجتماعية، وصِفة أخرى، أضافها الى بطل الرواية – افتراضا، فهو ليس كذلك حسب هذه القراءة – أو المحلى عنوانها باسمه، هذه الخصوصية انه زنجي، من أصول افريقية، يعامل كـ «عبد»، ويرد في السرد «الفتى الأسود»/ ص155، والعبيد شريحة تناقص عددها كثيرا مع مطلع القرن العشرين، وربما اختفت العبودية في العراق نهائيا في النصف الثاني منه، والعراقيون من أصول زنجية يعاملون في العراق كمواطنين طبيعيين، وفق القانون.
العنوان – عموما – مفتاح لأبواب النص، مفتاح عام (ماستر كي)، قادر على الكشف عن كثير مما سيأتي، كما أطلق عليه محمود عبد الوهاب (ثريا النص)، أو انه إطار يدور النص في داخله، في حالة الرواية أو البحث أو غيره، وإن بحدود، فهو هنا يشير الى أن حلب بن غريبه هو بطل الرواية، مثل رواية (أيوب) أو رواية (شلومو الكردي وأنا والزمن)، لكنه ليس كذلك تماما، ولأكثر من سبب، فثمة (عواد أبو المحاكم)، المثقف العضوي، ابن بيئته، الذي تمت تعبئته على يد المعلمين المنظمين حزبيا (ص11)، والذي يقوم بدور أكبر قليلا من دور حلب، كما أن الأول ايجابي والثاني سلبي، حسب تصنيفات الواقعية الاشتراكية، على الأغلب تنقسم البطولة هنا بين عواد وحلب، وربما حسب الواقعية الاشتراكية سيكون البطل عواد لا حلب، لأن الأول ايجابي والثاني سلبي، وتعود هذه الرواية بالذاكرة الى عدد من المسلسلات والتمثيليات العراقية في السبعينيات، والتي كان موضوعها الصراع بين الفلاح والإقطاعي، وهي الفكرة التي تبنتها الحكومات العراقية منذ 1958 الى 1980، عندما أجبرت الحربُ الحكومةَ على اتخاذ «طريق خاص في الاشتراكية».
قد تكون هذه الرواية مكتوبة منذ السبعينيات، ولم تنشر لظروف معينة، لكنها بأي حال من الأحوال تنتمي موضوعيا الى السبعينيات، وربما حتى طريقتها الكتابية محسوبة على ذلك الجيل، وأيضا لغتها، التي كانت حائرة بين الفصحى والعامية، إذ تقتضي بيئتها أن تكون اللغة عامية، ووفق المنهج الواقعي أيضا، أو افتراضا، وهو الذي لم يقدم جوابا على سؤال لغة الرواية، في العراق والدول العربية أيضا، فقد سيطرت اللغة الفصيحة حتى في الحوار، وربما استعانت بكلمات تراثية، فاحتوت ألوانا لغوية لا يمكن التأكد من كونها عفوية أو قصدية، إذ كتبت غريبه بالهاء، أكثر من مرة، ومنذ العنوان، وانوجد عدد غير قليل من الكلمات العامية أو الريفية، وكتب بعضها بالعامية والبعض الآخر بالفصحى، مما يمكن أن يوصف ذلك بأنه السرد الحائر بين الفصحى والعامية.
لم يتفق المتخصصون على الإجابة عن سؤال اللغة في الرواية، لأسباب كثيرة، منها السياسي ومنها العلمي ومنها البراغماتي، وغيرها، والآن، في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، يشتبك مع سؤال اللغة في الرواية سؤال الهوية، وعلاقته الوثيقة باللغة!! فهذه الرواية الريفية، التي ترينا – إذ تصف – بيئة غارقة في الجهل والفقر، ولها خصوصياتها الانثروبولوجية في الملبس والطعام والعلاقات الاجتماعية، وغيرها، وتأتي ببعض الألفاظ والأمثال العامية، هي – في الوقت عينه – تستخدم اللغة الفصحى لشخوص أميين «لا بروح أبيك. دع عنك المزاح وأفدنا»/ ص98، وتستعين في السرد بألفاظ تراثية، مثل: السغب/ ص46، ويقتعد/ ص61، والضهد/ 161، وغيرها غير قليل، فضلا عن تسلل الألفاظ العامية المصرية لها: «النداهات»/ ص141، و»كرباج»/ ص 81، وبعدد قد يتناسب مع العامية العراقية.