الحنين

إلياس الخطابي
يمضي إلى المقهى كل صباح. يجد أصدقاءه قد سبقوه. يطلب إبريق شاي، ويسلِّم على الجالسين. يجدهم يتحدثون عن الأحوال. بعد ذلك بقليل، ينادي عليهم إلى زاوية المقهى من أجل اللعب. يلعبون الكارطا ضاحكين. من يخسر يدفع ثمن المشروبات. هذا هو قانونهم الدائم. يواصلون اللعب ليقتلوا الزمن، وكي لا يشعروا بالضجر. يلعبون مرات ومرات، ثم يتوقفون قليلًا للاستراحة. ينشغل كل واحد بهمّه. جميعهم يدخنون السبسي، إلا أحمد، فهو يدخن السجائر منذ أن كان طالبًا في الجامعة.
يدخنون ويرشفون من كؤوس شايهم، ويتحدثون عن زمنهم، ويروون ما عاشوه من بطولات وآلام فظيعة تسبب فيها الاستعمار الإسباني والفرنسي. كل واحد يسرد حكايته بطريقته، رغم أنها حكاية واحدة. أحمد لا يحكي ولا يسرد، بل يظل صامتًا، لأنه لا يملك ما يملكونه. لم يعش في الزمن الماضي، ولا يملك خيالًا يجعله قادرًا على صنع الحكايات من اللا شيء. إنه في الثلاثينيات، أما هؤلاء الذين يعاشرهم، فكلهم تجاوزوا الأربعين والخمسين. أحيانًا، يشعر أنه لا ينتمي إليهم.

حين يسردون قصصهم وحكاياتهم. لا يغضبه كونه لم يولد في زمنهم كي يشاركهم ما عاشوه من وقائع وأحداث، وإنما ما يغضبه هو شعوره بعدم انتمائه لجيله ولحاضره. جسده في الحاضر، وعقله في الماضي.
يطلب شايًا آخر بدون نعناع، ثم يخرج ليجلس في الخارج، كي يراقب الناس وحركاتهم، وليدخن وحيدًا. يأتي إليه شاب في العشرينيات أو أقل، يسلِّم عليه، ثم يجلس بالقرب منه. يظل يحدثه عن منجزاته، ويخبره أنه صار يعمل ويجني المال من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. ينصت أحمد باهتمام، وحين يتوقف الشاب عن الكلام، يقول له:
-جميل.. وفقك الله.. لكن ذلك العالم بعيد عني كل البعد.
يسأله الشاب باستغراب:
– لماذا؟
يجيبه أحمد:
– لأنني لا أجد ذاتي فيه. أنت تراه جزءًا أساسيًا من الحياة، أما أنا فأعتبره لا شيء. ذاتي أجدها هنا، مع هؤلاء الشيوخ حين أجالسهم.
يأتي النادل بشايه، ويخبره أن الشيوخ ينادونه كي

يواصلوا اللعب، لكنه يرفض، ويقول له:
– سأظل هنا.. سأدخن أولًا كي أنسى بعض الهموم.. بعد ذلك سنرى ماذا سنفعل.
يغادر النادل ويتركه مع الشاب الصغير. يقول أحمد للشاب:
– اطلب قهوة أو شايًا.
يجيبه:
– لا.. أنا لا أشرب سوى العصائر والموناضا.
يضحك أحمد، ثم يضحك الشاب معه. يخرج سيجارة ويبدأ في تدخينها. يقول له الشاب:
– رجاءً، أخبرني لماذا تعاشر الشيوخ وتظل ملتصقًا بالحياة الماضية؟
يفكر أحمد قليلًا، ثم يجيبه:
– في الحقيقة، لا أدري.. ربما أعاشرهم لأنهم يذكرونني بالوالد الذي غادر الحياة، وربما السبب الأهم هو أن الحياة الحاضرة تشبه حياة الحيوانات، خالية مما هو إنساني، وأنا أريد أن أظل إنسانًا، لا أن أصير حيوانًا.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة