هيثم همامون
صمت مطبق داخل العربة، والحصان يدقّ بحوافره أكوام الثلوج حيث لا يمكن أن تميّز العين الحقل عن الطريق والسماء. تسير العربة على أمواج زورق وحيد وعليه مصباح يومض ناعسا ذلك المساء…ويستمرّ الصمت ومن بعده الخواء…حتّى أشجار الزيزفون والبتولا تكتسب البياض من الثلج.
ينزل إيفانوفيتش قدمه اليسرى كعادة المتأنّقين المحلّيّين، وسرواله من القماش السّميك، مجعّد الأسفل. برم شاربه الأيسر بيده اليمنى، ثمّ طرق الباب بعدما رفع ياقة معطفه. تبعته سيّدة كضوء القمر، وفي ضوء القمر كذلك تبدو عيناها واسعة وزرقاء، تلك السيّدة كاترينا بنت الطّبيب المشهور نيكولاي. وسمع صوت غامض:
-أدخل
وومضت أيقونة على المكتب، تحرّكت لها أباجورة كبيرة منتفخة. قال وهو يهزّ كتفيه، ويطوي ساقيه بحذائهما المذبّب:
-لا يعقل، السيّد والسيّدة إيفانوفيتش. مرّ وقت طويل على آخر زيارة…حقيقة أم مجرّد حلم؟
رفع إيفانوفيتش ياقته المرخيّة ثمّ أكمل:
-أرى أنّك ما زلت تحتفظ بالإوزة والقطّ داخل معطف الفرو الضخم.
-بالطبع سيد إيفانوفيتش
وتمرّ دقيقة صمت، ويقول في نفسه “يا للشيطان العجوز!”، يضغط على سترته الرّسمية لتفصح عن وجهين أليفين…الإوزة كريستينا والقطّ المشاكس إيدي. يلتهمان بعينيهما كلّ حركة ونفس، ويحتميان من الصّقيع داخل معطف القاضي بيتروفيتش. أمّا ساعة الحائط الرخيصة تعود إليها الحياة بعد انقطاع. مسح نسيم المساء الخفيف رأس بيتروفيتش الحاسر برقة، والتقط كلامه بدقة:
-ما الذي جاء بصاحب السعادة إيفانوفيتش، نحن رهن إشارتك.
لا يبدو في عينيه كراهية، بل الكثير من الفكاهة اللاّذعة التي تلمسها عند دقيقي الملاحظة.
-أحاول أن أعرف نفسي سيّد بيتروفيتش.
-يا لها من نصيحة رائعة ومفيدة.
ثمّ نشرت الثّلوج رقتها على الطبيعة الناعمة، وأشاح بنظرة لامعة وصادقة إليه:
-قل مباشرة ما تفكّر فيه، لا أطيق ما يسمى بالأفكار الغامضة سيّد إيفانوفيتش
توقفت نظرته على أعين القطّ، دسّ يديه في جيبه، أمال رأسه جانبا ورمى بقطعة جبن صغيرة للقطّ:
-يا له من قطّ وديع! كم أحبّ القطط.
قفز القطّ على القطعة وقد طوى ذيله، ثمّ سرعان ما عاد إلى أحضان سيّده.
-شكرا على كرمك، تدخل البهجة على قلوب الحيوان
فجأة نشبت داخل معطف القاضي معركة. كان القطّ يموء بلا انقطاع وهو ينثر لعابه. وثرثرت الإوزة وتململت. قهقه الجميع في تلك اللّحظة حتى انكمشا مجدّدا في جوف المعطف، يستمدان الحرارة من كرش القاضي الكبيرة التي اهتزّت إثر ضحكة باردة كأنّه جالس على جمر. تطلّعت الإوزة كريستينا إلى سحنته وقالت في نفسها: “أية أشياء تافهة كانت كفيلة بجعل هذا المخلوق تعيسا طول النّهار”. ابتسم لها ابتسامة مذنبة، وانبرى:
-أوه! يا للعاصفة في الخارج! تعمى العيون! ما الذي أتى بكما إلى المحكمة؟
نظرت السيّدة كاترينا إلى الأيقونة الذهبيّة. أمّا السيّد إيفانوفيتش، كلماته على طرف لسانه كثيرة، لكن صراحته اتّضحت عندما نزع من على رأسه قبّعة فيدورا بحوافرها الواسعة، وسقف منحني قليلا، ونزع معها خصلة شعره، أبانت سحنته عن عرّة، ثمّ راح يقول:
-عليك الرحمة أيّها الكادح الشريف! لا سبيل للصلح، الحياة معها مستحيلة.
وندت عن شفتي بيتروفيتش حركة وكأنّه يريد أن ينفخ ذبابة عن خده. انفعلت السيدة، وبحلقت في الأرض بعيونها الجاحظة كأنّها يئست تماما، لكن عيونها حبلى بقطرات ماء، حرّكت شفتيها بصعوبة وانطلقت تقول:
-قبلات في الهواء للسيّدة أولغا، ماريا…سفيتلانا…رهيب! ثمّ إنّ الرجال لا يذهبون إلى حقول الكرنب ليلًا لإحضار الخيار، هذا يعرفه الجميع.
احتكّت بلورات الثلج بزجاج النافذة. عطس بيتروفيتش ومسح أنفه بمنديل استلّه من جيبه، وكقاض مهذّب نظر حوله ليرى ما إذا كان قد نثر لعابه على المكتب. ويحدث أن يسقط القطّ من حاشيّة المعطف فيعيده بأمان إلى أحضانه. تحدث مع نفسه لبرهة: “فك اللغز يا أوديب الحكيم!”، ثمّ حك خلف أذنه اليسرى ببطء، ودمدم:
-السيّد إيفانوفيتش نشهد له بالسمعة الحسنة، لا يمكن أن تندّ عنه أفعال كهذه سيّدة كاترينا
وخشخشت الإوزة كالفأر، ثمّ أكمل كلامه:
-أنظري إلى المسكين يعمل ساعات طوال على قدميه في الحانوت البارد مغالبا الرغبة في اللهو والنوم…المسكين. كلّ هذا في سبيل أن تنعمي حياة طيّبة…المسكين إيفانوفيتش. هذا الرجل يرهقني بطيبته!
تضرعت السيدة كاترينا إلى السماء لكنها لم تنبس بكلمة. وكان باب المحكمة ينفرج بحرج مقدار نصف شبر، وتارة يوصد. تهبّ خلاله رائحة هواء القوقاز العطر بنهم شديد. يستمرّ الصمت، أمّا ساعة الحائط الرخيصة تعود للحياة تك تك…تك
مسحت دموعها، وسقطت ذراعها لا إراديّا، ثمّ نطقت:
-خذ مثلا هذه القضيّة سيّد بيتروفيتش. عندما لا أجده في الحانوت كنت أدق أبواب منازل الجارات في وقت متأخر من اللّيل. أليس ذلك فظيعا؟
-يا للمسكينة كاترينا! ما أسهل أن تكون وفيّا في هذه الحياة! دنيا غريبة
في الخارج تتساقط طبقات الثلج على سقف العربة والحصان الذي ينتمي إلى سلالة الأورلوف، أقدم السلالات في روسيا. أمّا في الدّاخل، لا يخرج من حلق السيّد إيفانوفيتش سوى فحيح، ثمّ استكان القاضي إلى مقولة كانط معلّقا:
-ما من شيء على الإطلاق في هذا العالم يمكن اعتباره جيدا في ذاته دون قيد أو شرط سوى الإرادة الخيّرة. المسكين يحبّ مساعدة البشر كذلك، كما يحبّ مساعدة الحيوان.
ولاحت من وراء ظهر القاضي الإوزة كريستينا وهي تزعق. كان فيما يبدو أنّها تضحك. ثمّ نطقت فجأة:
-حياة الإنسان رهينة بالأشياء الجميلة. والأشياء الضئيلة التافهة، لا تستحق العناد.
وانقطع حبل الحديث حين هفهفت السيّدة كاترينا بذيل فستانها هاربة رفقة زوجها المفزوع، وندف الثلج تدور بكسل حول مصابيح الشارع التي أضيئت لتوّها. ثمّ وضح بينهما خيط رفيع ظهرت عبره فتاة بيضاء جميلة، ابتسمت ابتسامة شاكرة وصعدت العربة.
قصة قصيرة السيّد بيتروفيتش والإوزة
التعليقات مغلقة