كنت أظن إلى وقت قريب أن وادي السليكون هو ذلك العالم الافتراضي الذي ظهر بعد اختراع الترانزستور في أربعينات القرن الماضي، وأحدث ثورة إلكترونية كبرى، مانزال نعيش أجواءها حتى اليوم، وندين لها بالكثير من التقدم العلمي والتقني والاجتماعي.
والسليكون هو العنصر الأعظم انتشاراً في الأرض بعد الأوكسجين. ويوجد على شكل مركبات أكثرها شيوعاً هو الرمل. أما السليكون النقي فهو مادة أساسية في تكوين أشباه الموصلات التي تدخل في صناعة التلفزيون والحاسب الآلي والهاتف النقال وغيرها من الأجهزة التي قلبت حياتنا رأساً على عقب.
لكنني اكتشفت في ما بعد أن وادي السليكون ليس تسمية رومانسية لعالم ما بعد الحداثة، الذي خلقه طهورهذا العنصر. بل لمدينة صناعية تقع جنوب ولاية كاليفورنيا الأميركية. وفيها كبريات الشركات التي تنتج التقنيات المرتبطة بمادة السليكون مثل أبل وغوغل وفيسبوك وغيرها. وفي هذا الوادي نسبة كبيرة من المهاجرين الآسيويين وخصوصاً من الهند وباكستان والصين والفلبين. وقد أطلقت هذه التسمية أول مرة عام 1971، لكن الفكرة نشأت في الثلاثينات على يد الدكتور تيرمان رئيس جامعة ستانفورد التي تقع بالقرب منها. ولها الفضل في إمداد الوادي بما يحتاجه من البحوث والأفكار والعقول.
إلى هنا تبدو المسألة عادية جداً. فالشعوب الحية تمارس الابتكار دائماً، وتقوم بتشجيع طلبتها وأساتذتها على ارتياد المجهول. وهدفها من وراء ذلك صنع مستقبل جميل متغير. إلا أن وادي السليكون الذي تبنته شعوبنا شئ مختلف تماماً، ويقوم على صناعة أخرى لا علاقة لها بأشباه الموصلات من قريب أو بعيد. بيد أن لها ارتباطاً وثيقاً بقيمة ثقافية عليا اسمها الجمال. فقد تلقفت عيادات التجميل هذا العنصر العجيب، وجعلت منه أداة أساسية من أدوات تغيير السحنات البشرية، وإضفاء مسحة ساحرة عليها. وبشكل خاص الإناث اللواتي تضعضعت مواصفات الجاذبية لديهن، أو اللواتي يرغبن بمظهر مختلف عما وضعته الطبيعة فيهن. أو يقعن ضحية الإعلانات اليومية في وسائل الإعلام عن تقنيات حقن البوتكس وإزالة التجاعيد وتكبير الشفتين والخدين وغير ذلك من الأمور! وتبدو الأرقام التي تدرها هذه المهنة خيالية في البلاد العربية، لكنها ليست معلنة في الغالب. وفي بلد مثل الولايات المتحدة باتت من (الصناعات الثقيلة) التي تدر مليارات الدولارات سنوياً. فهي ليست ظاهرة هامشية في المجتمع كما قد يظن البعض. كما أنها ليست وقفاً على النساء، إذ يبلغ عدد زبائنها الرجال حوالي ثمن عدد النساء. ويعمل فيها عشرات الألوف من الأطباء وخبراء التجميل من الجنسين.
لقد وصف أحد النقاد شاعراً عربياً كبيراً رحل عن عالمنا منذ ما يقرب من نصف قرن، أنه ولد يوم كانت الوسامة تسكن في الملكوت الأعلى، ولم تفكر أبداً في النزول إلى الأرض، رغم أن عالمه الشعري كان مترعاً بالجمال. وأظن أنه لو ولد في عصرنا هذا، لما رضي أن يكون بأقل من شعره بهاءً، ومن ألفاظه سحراً، ومن فنه براعة. فالحسن هو بغية الناس في كل زمان ومكان!
محمد زكي ابراهيم