فاضل ثامر
رواية ” الصورة الثالثة ” للروائي علي لفتة سعيد (عمان ، ٢٠١٥ ) والتي هي الطبعة الثانية لرواية “اليوم الأخير لكتابة الفردوس ” (بغداد (٢٠٠٢) رواية إشكالية مكتنزة ومكثفة ومضغوطة داخل كبسولة الحلم الذي يتشظى سردياً، عبر سرد هذياني، ذاتي. إنها تكاد أن تكون( أوديسة) عراقية لمحاولة عبور حروب الدكتاتورية المتتالية التي كان يدفع ثمنها و “فاتورتها ” المواطن العراقي لإرضاء شهوات دكتاتور مستبد.
بدأ السرد الروائي عبر توظيف ضمير المتكلم (أنا) الاتوبيوغرافي من قبل بطل الرواية المركزي، غير المسمى، لكننا سنعرفه من اسم قرينه (محسن). وكان يمكن للرواية، بفعل هذا السرد الذاتي أن تتحول الى رواية من روايات السرد الذاتي، لكن الروائي أنقذها من هذا المأزق من خلال اختراع شخصية القرين محسن ، الذي هو شخصية افتراضية تخييليه تحاور بطل الرواية. وبين حدي الموت والحياة يستمر السرد الروائي في نهاية مفتوحة قابلة للتأويل الى أحد الحدين. لكن، يا ترى، لماذا تخلى الروائي عن عنوان الرواية في طبعتها الاولى “اليوم الأخير لكتابة الفردوس ” والذي يحمل موجهات اخرى للقراءة منها انها توحي بالتوجه التعبوي الذي كان يشترطه النظام السابق، كما تتحدث الرواية من خلال هذا العنوان عن تجربة زمنية محددة هي “اليوم الأخير ” ومعنى هذا أن الزمن الكرونولوجي للرواية هو يوم واحد ، ربما تناظراً مع أوديسة جيمس جويس “يولسيس ” التي تستغرق أحداثها الكرونولوجية (بمقياس الساعة ) يوماً واحداً.
كما أن الجزء الثاني من العنوان ” كتابة الفردوس” يضع الرواية فضلا عن الإعلان عن قصدية الكتابة الروائية، تحت لافتة روايات (الميتا سرد) ، من خلال تأكيد البطل أنه يقوم بعملية كتابة رواية افتراضية. أما كلمة “الفردوس “فقد تحيل الى الموت من خلال قرار البطل بان ” يطوي يطغه ” ويغادر الفندق، ربما الى جبهات الحرب، في إشارة لخداع الرقيب الايديولوجي آنذاك. ونجد في بنية الرواية ما يشير الى أن هذه البنية الزمنية محددة بأربع وعشرين ساعة فقط. إذْ يستهل الروائي سرده بتحديد موعد انتهاء الساعة العاشرة بالضبط، للشروع بعملية السرد: ” مع انتهاء الساعة العاشرة بالضبط، صرت اشعر بالوحدة ” (ص٩) وتختتم الرواية في الفقرة الختامية الموسومة (خارج المتن ) بتحديد زمني مماثل : حين نزلت الشارع كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة ” (ص ٢٠٥) أي ان الزمن الفعلي هو اربع وعشرين ساعة فقط . ويخيل للقاري أحياناً ان الزمن الفعلي للرواية هو ساعة واحدة فقط، هي تلك التي نام فيها البطل متأخراً عن تشغيل المولدة، عندما كان نائماً تحت السقيفة، وأيقظه صوت صاحب الفندق، وأن هذه الساعة هي ساعة الحلم الذي نسج فيه أحداث راويته، التي لم تكن واقعية، وإنما مجرد حلم عارض. وفي غمرة السرد الهذياني تختلط صور الواقع بالحلم لديه. كان يتوسل بسلوى أن تنهض من مشهدها الدموي بعد زيارتها للضريح ” سلوى، انظري إلينا، أنظري الى زوجك كم يحبك. لم أكن أفعل لك شيئاً، إنه حلم، مجرد رغبة لكتابة رواية عنك “. (ص٢٠١) وبذا نكتشف أن السرد الروائي في رواية ” الصورة الثالثة ” كان سرداً حلمياً تخيلياً، لا علاقة له بالواقع.
لكن القارئ أحس، وهو يتابع الوحدات السرية أنه أمام سرد واقعي وحقيقي، لأحداث شهدها المجتمع العراقي من حروب الدكتاتورية المدمرة ونتائجها الوخيمة على حياة الناس، حيث أصبح الكثير من أبطال الرواية ضحايا للحرب، ومنهم بطل الرواية محسن ، وسلوى وزوجها الذي شوهته الحرب، كما ان البطل كان يتقصد أن يكتب سرداً واقعياً عن تجاربه في الحياة والحرب.
وكان راوي الرواية وبطلها محسن، وهو في حواره مع شخصية القرين الآخر يدرك انه كان يكتب رواية واقعية:
” قلت لي أنك يجب أن تكتب بحيادية تامة ، وأن تمازج بين ما وقع عليك ، وما تسمعه من سلوى ، ليكون الناتج كتابة واقعية. ” (ص٣٩).
وبعد مشاهدة محسن للصورة الثالثة لزوج سلوى ، ومعرفة مأساته بوصفه ضحية من ضحايا حروب الدكتاتورية المجنونة ، حدث انقلاب كامل في موقفه ، حيث يبدأ التداخل بين الواقعي والتخييلي أو الحلمي ، بحيث يصعب التمييز بين الاحداث التي وقعت والاحداث التي لم تقع أصلاً . فالقارئ لا يستطيع ان يجزم بواقعية مشهد لقاء بطل الرواية بزوج سلوى، أو مشهد سلوى الغارقة في بركة من الدم. كما وجدنا أن هذا الانقلاب الذي مثلته ذروة الاكتشاف قد غير من المنظور القيمي والأخلاقي للرواية، حيث وجدنا البطل وهو يشعر بإحساس مدمر بوصفه آثما لاعتدائه، غير الأخلاقي، على حرمات زوج دمرته الحرب، حيث ظلت عبارة الزوج تتردد في راسه ” انت والحرب لماذا؟ ” (ص ١٩٢)
ويخيل لي أن هذا المعنى الأخلاقي والقيمي يتعارض كلياً مع النصف الاول من الرواية، وكاد أن يضعف الرواية، لولا اكتشاف أنها مجرد حلم، ولم تكن هناك أية خطيئة ارتكبها البطل، أو ممارسة غير شرعية مع بطلة الرواية سلوى. ومع ذلك يمثل هذا النكوص، ردة رؤيويه لم تعد مقبولة في سرديات الحداثة وما بعد الحداثة. كما ان تحول الفعل الروائي بكامله الى مجرد حلم هو هروب من مواجهة الإشكاليات التي طرحها الخطاب الروائي، ومنها محاولة العثور على نهاية إنسانية وسردية معاً لمصائر الأبطال والشخصيات وبشكل خاص بطل الرواية محسن وسلوى وزوجها.
لكن علينا الاعتراف ببراعة الروائي السردية التي كشفت عن نقلة كبيرة بعد روايته الاولى |” وشم ناصع البياض ” وقدرته على تقديم أزمة البطل ارتباطا بخلفية سياسية واجتماعية معقدة مرتبطة بظروف الحرب وهيمنة النظام الدكتاتوري.
فبطل الرواية بطل إشكالي، بمفهوم جورج لوكاش، وذلك لإحساسه المدمر بضغط الواقع الخارجي المتمثل بالحرب والحصار وغياب الحرية، وكوابيس الدكتاتورية، وهي التي دفعته الى حالة نفسية اقرب الى الهلاس والشيزوفرينيا والهذيان والتشظي، جعلته يتساءل مع نفسه فيما إذا كان قد راح يهلوس: ” هل تدل هذه الحالة على أنني قد بدأت أهلوس؟ ” (ص ١٠) ونجد البطل محاصراً ومضغوطاً بكوابيس ورؤى تمزقه.
وتتحول مفردة” الهذيان “الى مفردة أساسية متواترة ومتكررة على امتداد الرواية، وهي بالنسبة للبطل تمثل القاسم المشترك لجميع الناس. ولذا يمكن الحديث عن تشكل شعرية سردية هذيانيه مهيمنة على عالم الرواية بكامله ، تتحكم بسلوك البطل الذي يحاول أن يجد أجوبة واضحة لأسئلته المعلقة ، والتي لا يجرؤ على البوح بها، لأنه أسير نظام سياسي قامع يتلاعب بالحرب وبمصائر الناس ، حيث يوحي لنا البطل أن الحرب هي السبب الأساسي لكل الازمات والمحن، وربما تعد كتابة رواية عن الحرب، وبشكل أدق تحت مظلة الحرب، وبهذه الطريقة، تحسب للروائي الذي تجنب الانسياق وراء شعارات تمجيد الحرب وتبريرها وتلميع صورة الدكتاتور. فالحرب بالنسبة له قدر دائم ، وهي التي تقود الانسان الى مصير واحد هو الموت.
كما كان الروائي جريئاً في تقديم مشهد رجال الامن وهم يستجوبون البطل عن هويته. و كان البطل ، وهو يدون صفحات مدونته الروائية يركن كثيراً الى عملية الاستذكار ، وفعل الرؤية البصرية : إذْ يطلب من قرينه أن يكون عينه الرائية عن الواقع لتحرير النص.
ولكن المؤلف وللأسف، ينسف كل النهايات السردية والحياتية والاجتماعية للمشكلة، والتي بناها لبنةً لبنة، عندما أحالها الى مجرد حلم عابر، هارباً بذلك من الإجابات السردية المتعلقة بنهاية الراوية. كما كان الراوي، في تأملاته وحواراته، حريصاً على إقامة صلة وثيقة بالقارئ، الذي تقع عليه مسؤولية إدراك مغزى النص وسد الفجوات التي تركها السرد، عن قصد او عن غير قصد.
وعلي الرغم من كل شيء فقد كان الروائي موفقاً في كتابة نص روائي عن الحرب ، في ظرف صعب، جوهره معادٍ للحرب. كما كان الروائي جريئاً وماكراً في تمرير عمله تحت رقابة جهاز الثقافة البوليسي للنظام الدكتاتوري آنذاك ، كما نجح في أن يخلق نصاً روائياً مفتوحاً حسب منظور( أمبرتو إيكو) حيث ظلت النهاية ، من الناحية السردية مفتوحة على المجهول ، من خلال حركة البطل الأخيرة وهو يحمل يطغه ويهم بمغادرة الفندق دونما هدف أو غاية ،تاركاً الباب مفتوحاً لتأويلات لا نهائية ومتعارضة الى حدٍ بعيد .
رواية ” الصورة الثالثة ” كتابة مغايرة عن الحرب ممتلئة بهموم الانسان ومعاناته تحت وطأة كوابيس الحرب، وفي الوقت ذاته ، هي تجربة بطل إشكالي انموذجي، وضحية من ضحايا الحرب والدكتاتورية وغياب الحرية ، وهي من الناحية السردية تمتلك كافة المقومات التي تجعل منها تجربة سردية حداثية متميزة من تجارب الكتابة الروائية في العراق وتؤكد خصوصية التجربة الروائية المتراكمة للروائي علي لفتة سعيد الذي ظل يثري المكتبة الروائية بالمزيد من الكتابات السردية التي بوأتة مكانة خاصة بين أدباء جيله.