كه يلان محمد
أخذ موضوع العلاقة بين الغرب والدول النامية قسطاً كبيراً من الاهتمام في النصوص الروائية، ويكونُ ذلك عاملاً لمعرفة التنوع الثقافي، والاختلاف العقائدي ،والتفاوت في نمط المعيشة بين المجتمعات. ما يعنى أنَّ للرواية غايةً معرفية إلى جانب ما توفره من المتعة ربما يفوقُ فن الرواية على أشكال تعبيرية أخرى في إيجاد التوازن بين المضمون الفكري والبعد الجمالي. وهذا ما يتوخاهُ الروائي الفرنسي إيريك إيمانويل شيمت في اشتغاله الروائي. إذ لا يغيبُ في أعماله ما يومئ إلى مستوى التواصل بين شخصيات وافدة من بيئات حضارية ودينية مختلفة. وهذا ما تراه في روايته المعنونة “ميسو إبراهيم وأزهار القرآن” حيث أرادَ الكاتبُ الإبانة عن المشترك بين الديانات على الرغم من تفاقم الصراعات تحت مسميات دينية ،وحاولَ في عمله الموسوم “يرى من خلال الوجوه” مقاربة الأزمة المركبة التي يعانيها المجتمع الفرنسي حيثُ لم يتم تشكيل إطار يستوعبُ أتباع الثقافات المغايرة كما أنَّ تهميش هؤلاء يزيدُ البنية الاجتماعية شرخاً وانقساماً. أكثر من ذلك فإنَّ مؤلف “ليلة النار” يضعُ وظيفة وسائل الإعلام على المحك، فحسب ما يردُ ضمن وقائع رواية شميت ما يهمُ الإعلاميين هو تحويل الأزمة إلى مادة مستهلكة دون التعمق فيما يكونُ سبباً لإستفحالها. وبهذا يضمرُ النص خطاباً حجاجياً يهدف إلى إثارة الأسئلة بشأنِ التعددية الثقافية والحرمان الاستقطاب على المستوى المعيشي الذي لن تكونُ ضحيته أبناء المهاجرين فحسب بل يضيق الخناق على الفرنسيين أيضاً. وعلى المنوال نفسه يتناولُ شيمت في رواية “فيليكس والنبع اللامرئي” ثيماته الأثيرة وهي تضايف الثقافات والتواصل الحضاري والانفتاح على الآخر المختلف، والملفت في هذا السياق هو دراية الكاتب في تمرير الأقوال والملفوظات المعبرة عن معتقدات الآخر ورؤيته للحياة. وهذا لا يكون على حساب الحساسية الأدبية للنص.
العجائبية
تغلف غلالة من العجائبية أجواء روايات “شميت” وما يضاعفُ من التشويق في نصوصه هو الشخصيات الخارقة إذ أنَّ أوغسطين في رواية “يرى من خلال وجوه” يمتلكُ القدرة على رؤية ما هو غير مرئي الأمر الذي يضعهُ أمام تحديات. ويوفرُ له فرصة اللقاء مع كاتبه المفضل أيضاً، ويخوضُ بطلب من الأخير في تجربة ميتافزيقية مثيرة. ولا تنفصلُ السمة العجائبية عن عنصر الشخصية في رواية “فليكيس والنبع اللامرئي” ويلوحُ هذا الملمحُ في مفتتح العمل وتنطلقُ الحركة الأولى بسؤالٍ يشحنُ النص بالتوتر، ومن ثمَّ يتدخلُ صوتُ الصبي وهو المُسند إليه مهمة السرد بالضمير الأول موضحاً بأنَّ السائلُ ما هو إلا خاله يرى بأنَّ أمه الواقفة أمام المجلى بقامتها الطويلة والمستقيمة ميتةُ والدليل على ذلك هو عدم تفاعل المرأة مع الأشياء ويطلبُ الخالُ من ابن أخته بأن لا ينخدع بحركة الأم. فهي في عداد الجثث. ويعتمدُ فيما يقولُ على الخبرة التي اكتسبها من بلده. هنا يبدأ الجدلُ بين الاثنين إذ يرفضُ فيليكس انتساب أمه إلى خارج “بالفيل” فرنسا فيما يشيرُ خالهُ إلى أن الوالدة لم تبصر النور إلا في الأدغال. يعلنُ الصبي إعجابه بباريس وتسمعُ على لسانه وصفاً لأجواء وشوارع المدينة. ومايلبثُ أن يعودُ الحديثُ إلى حالة المرأة وبينما يعبرُ الصبي عن حبه الشديد لوالدته يلفتُ الخال انتباه فيليكس بأنَّ الحب لا يعني الفهم وما تعيشهُ الأمُ حالةُ يرثى لها، وما يرشحُ من الحوار أنَّ الطبيب قد شخص حالة فاتو بأنها اكتئاب وما عليها إلا تناول مضادات الاكتئاب غير أنَّ بامبا لا يقتنعُ بجدوى الأدوية لأنَّ فاتو أصبحت ميتةً. ويسترسلُ في عدِ ما يدعمُ رأيه ،ومن يتعافى هم الأحياء وليس الأموات، لكن الابن يريدُ إعادة الحياة إلى والدته. ينحوُ الحدثُ منحىً أكثر غرائبيةً عندما يشرعُ بامبا بالبحث عبر محركات “النت” عن شخص يحي الموتى أو ما يمكنُ تسميته بشخص المعجزة. وما من فيليكس إلا أن يتعجبُ من هذا التصرف. ويعقبُ ذلك مسلكُ آخر من الرواية. إذ يستعيدُ الراوي صورة الأم قبل أن يحلَّ بها المرض. فكانت شخصيتها نقيضةً لكل أعراض الكآبة، ونشيطةً وأضاف صوتها الحريري مزيداً من الرخامة إلى النبرة الاستوائية كما أنشأت مقهى في شارع رامبونو وتحول إلى ملتقى الجيران حيثُ اختارت له اسما غريبا “في العمل” لأنَّ حرفاء المقهى حين يهاتفون الزوجة أو الزوج من المقهى يقولون نحن في العمل. فضلاً على ما سبق فإنَّ هذا المكان بمثابة مأوى للمنبوذين اجتماعياً. تتواردُ في تيار السرد أسماء زبائن المقهى حيثُ يتكفلُ الراوي بتقديمهم لافتاً إلى نمط شخصياتهم فالسيدة سيمون وهي شخصية متحولة جنسياً وأقرب إلى صاحبة المقهى، وسوفر ونيداس الذي ما انفك يعلقُ على الغادين والرائحين من الزبائن يفصلُ الراوي في وصف مظهره، و يُعرفُ باعتباره فيلسوفا. ويجدرُ به إسداء النصائح للرؤساء أما روبرت لاروس فينكبُ على قاموسه ويخلصُ مشروعه في حفظ معاني الكلمات. والأهم من كل ما سبق هو “فيلسيان” أو الروح القدس والد الصبي فقد أمضى أسبوعاً في باريس قبل غيابه ولولا زيارته الخاطفة لمدينة النور ما أبصر فيليكس النورَ ويعودُ الروح القدس إلى مسرح الحدث لاحقا حين تشتدُ العقدة وتتورطُ فاتو في عراكٍ مع سماسرة يريدون شراء المقهى.
الحكمة
تبدأُ أزمة فاتو النفسية عندما تحرمها القوانين من بيع المحل وتصدمُ بحقيقة دين ضربي متخلد بذمة مالكه الأصلي، وبهذا تفشلُ في تحقيق مشروعها بانتقال المقهى إلى محل السيد تشومبي. يجربُ بامبا السحر متوسلاً منه الشفاء لفاتو لكن المحاولات بما فيها لوحة الويجا لا تجدي نفعاً وما يذكرهُ المؤلف في هذا الإطار يكشفُ بأنَّ سوق الشعوذة والسحر لاتزال رائجة ولم يتوقف الطلبُ عليها. وما أنْ يظهر الروح القدس من جديد حتى يكتسبُ السردُ زخماً حيث تنطلقُ رحلة نحو أفريقيا ويصحبُ فيليكس والديه إلى السينغال وما يلاحظهُ لأول وهلة أنَّ لونه الأسود لم يعد فريداً بخلاف ما كان عليه الأمر في باريس إذ طالته هناك تصرفات عنصرية دون أن يبدرَ منه ردَ الفعل وما يتوصلُ إليه فيليكس أنَّ وضعهم في إفريقيا السوداء قد سحب منهم الامتيازات وما عادت مواصفات فاتو بين بني قومها ملفتةً. على أية حال لا يتجاهل شميت النزوع إلى العنصرية في الغرب يومئ إلى ما يعنيه الاختلاف في الشكل والمظهر على المستوى الحضاري والجمالي ما يثير استغراب الراوي أكثر هو نمط الحياة وتصميم البيوت في بلد أمه. إذاً ينجحُ بابا بلوم الساحر بطقوسه الخاصة انتشال فاتو من وضعها المتأزم وتعودُ إلى حالتها الطبيعية وبذلك تفوق وصفة الساحر على مضادات الالتهاب والكورتيزون، وما يضمرهُ خطابُ الرواية هو خيار التكامل بين الحضارات والتوازن بين الروحانيات والمظاهر المادية. ويمررُ شميت على لسان بابا بلوم خلاصة رسالته “إفريقيا هي الخيال مجسداً على الأرض وأوروبا هي العقل مجسداً على الأرض. لن تعرف السعادة إلا إذا نقلت محاسن الواحدة منهما إلى الأخرى” وما يفهمُ من العبارات المكثفة في الرواية أنَّ الحقيقة ليست إلا ما تزيدُ إدراكنا بالبعد الجمالي للوجود كما لا يعمقُ التكالب على الامتلاك سوى الشقاء والبؤس “العالم ملك لأولئك الذين قرروا ألا يملكوا شيئا” كأنَّ بالكاتب يكررُ ما قاله سقراط ” ما أكثر الأشياء التي لا نحتاج اليها” بصيغة أخرى. يتقاطعُ أسلوب الكاتب في هذا العمل مع ما يتبعهُ باولو كويلو في رواياته