د. سمير الخليل
تتحدث قصائد مجموعة (شجرة اليقين) الصادرة عن اتحاد أدباء ميسان- 2011، للشاعر “رعد شاكر السامرائي” عن وصول الشاعر إلى “يقينه” الخاص، وقد تجذر عميقاً في داخله وأمامه كشجرة قوية، واليقين الذي تلبس الشاعر ليس من النوع الذي نعرفه، يقين تأريخي، أو اجتماعي، أو سياسي، أو وثوقي، إنما هو يقين ذاتي جاء كحل ناجع عبر سلسلة من التجارب والأخطاء والمآزق التي وقع فيها الشاعر أو جابهته في رحلة العمر. واليقين الذاتي تمحور “النأي بالنفس” والابتعاد عن كل ما يدور في الما حول من حراك اجتماعي أو ثقافي أو سياسي. ومنذ البداية يفتتح مجموعته الشعرية بهذا الاستهلال كيما يبرر “يقينه” النافل:
((في كل حرب/ تقتاد الخيول للسخرة/ ويوارى الخصب بالسباخ/ وتحتطب الأشجار للتوابيت/ وإثر كل حرب/ تسّفد الأفراس/ ويستصلح البوار/ لتزرع الفسائل/ قرابين لحروب مقبلة)) (ص6).
إذن، فشجرة اليقين جاءت بسبب ضغط الحروب، وزاوية الرؤية لا تكون إلا من منظور خاص فقط، وكذا اليقين من منظور محدد أيضاً، وعدد “الحقائق” في الواقع هو بعدد نظراتنا إليها، وإن نسخ الواقع من ثم تكمن في عدد وجهات نظرنا، فلا يوجد “يقين” متجانس مطلق، وكذلك لا توجد رؤية بانورامية شاملة ومحيطة بكل شيء.
إن “النأي بالنفس” يوفر السلامة من الأذى، ويوفر الاستقرار وعدم القلق والتوتر، وأمان العائلة، وصحة البدن، فما يحدث ليس بأهمية جسد الإنسان وأجساد عائلته. وما يحدث الآن يحدث في كل زمان ومكان منذ بداية الخليقة وحتى سدرة المنتهى، ولا خلاص ممّا يحدث فهو قدر مكتوب في طرس التكوين ولا تبديل له أو تغيير لمجراه:
((سر تعاسة هذا الإنسان هو الخوف/ خوف القيد/ أزيز الطلقة/ أنياب الكلمات/ ولذا بتملكه الجبن/ وتطحنه الآهات)) (ص14).
يميز مفهوم “النأي بالنفس” ثلاثة أبعاد توصله إلى “اليقين” الكامل الذي يشبه تماماً اليقين العقائدي، وهذه الأبعاد هي على التوالي: المجرّب (الاحتكاك مع الوقائع)، والمدرك (تصنيف الخيارات والرهانات وتقييم نتائجها)، والمتخيل (دراسة الفرضيات والمفاضلة بينها). أما العلاقات الجدلية التي تقوم بين الأبعاد الثلاثة، فهي مصدر لتوتر درامي يمكن أن نقرأ من خلاله تأريخ الممارسات الارتكاسية، فمواقع الارتكاسات العملية والمصيرية لها من القوة بحيث تؤثر في تعبيرات المواقف وتعمل في حقل الممارسات الكلامية باعتبارها قوة انتاج لغوية. لكن القول إن العلاقات بين المجرب والمدرك والمتخيل هي علاقات جدلية وليست سببية يترك الأشياء على غموضها ويتحوّل اليقين إلى لا يقين:
((في عبوديتنا المقيتة للأقدار/ وتأجيل أحلامنا المؤجلة/ إلى أجل غير مسمّى)) (ص38). (( في تحسسنا ظلام الليل/ وإصرارنا الأعمى/ على لا ظلامية النهار)) (ص38).
بمقدور شبكة من الادراكات والتقديرات والأفعال، في وقت ما، أن تعمل بمرونة لتحقيق أهداف متنوعة لا نهائية، بينما هي في اللحظة الأخيرة وليدة التحولات المادية للبنى الموضوعية، ومن ثمَّ نتاج القاعدة الاقتصادية للتشكيل الاجتماعي موضوع البحث، وصلة التوسط هنا تقوم عبر مفهوم “النأي بالنفس”، فهو مبدأ يدفع نحو عفوية منظمة تنتج ممارسات تميل بدورها لإعادة انتاج الشروط الموضوعية التي نتجت من مبدأ النأي بالنفس، والسببية الدائرية (حتى التراكمية) واضحة هنا، واستنتاج الشاعر هو مع ذلك وصف صارخ لقيود سلطة المتخيّل على الجرّب، لأن النأي بالنفس هو القدرة غير المحدودة عل توليد منتجات- أفكار، مدركات، تعبيرات، أفعال- وضعت حدودها بفعل شروط انتاجها التأريخية والاجتماعية والثقافية، فإن الحرية المشروطة المشترطة التي توفرها هي بعيدة عن خلق ما هو جديد حقيقة لبُعدها عن إعادة الانتاج الآلية والبسيطة للشروط الأولية للحياة الحرة الكريمة :
((مدبرٌ/ قبل أن يشهر الآخرون مخالبهم/ محبط/ تتداعى متاريسه قبل أن تبدأ المعركة/ منزو/ يتهشم صخر كرامته/ تحت أحذية الصاعدين/ فرادته/ مزقاً تتناثر فوق انكسار ظلال تهيبه/ ثم/ إذ يتملكه اليأس/ ينحر أطناب أجفانه/ هاوياً لحضيض القنوط بلا حركة)) (ص47 وما بعدها).
في داخل زارع (شجرة اليقين) هناك مكان ما محدد قد تمزّق، هو مكان الحس المشترك، والمعرفة، والممارسة الاجتماعية، والسلطة السياسية، مكان كان يحتفظ به ويستعمله في خطابه اليومي، كما في فكره المجرد (أشعاره وتخييلاته) باعتباره وسطاً أو قناة للتواصل. لقد اختفى ذلك المكان: المكان الإقليدي (المكان الرياضي المعروف بأبعاده الثلاثة، الطول والعرض والارتفاع)، والمكان المتخيل الرؤيوي (الشعري، الأدبي) كمرجعين لأفكاره وثقافته، تماماً مثلما بطلت من قبل الأشكال المألوفة الأخرى كالوطن، والتأريخ، والأبوة، ونظام الأحلام، والأخلاق التقليدية وسواها، لقد كانت لحظة حاسمة بالمعنى الحقيقي للكلمة، كل ذلك حدث بسبب الحرب والطائفية والشحناء والكذب والدجل والتلاعب بعقول الأغلبية المغلوبة على أمرها:
((هواجسنا/ قبلنا تستفيق/ لتسحلنا عنوة/ لمرايا الصباح/ نتأمل أطلالنا في ذهول/ يا لهذا النحول/ نتحرى مواضع أوجاعنا)) (ص24).
وبالمقارنة مع الحياة في مجتمع منقسم، متخثر، يتغيّر بوتيرة بطيئة جداً، فإن كمية لا سابق لها من الاختبارات باتت تتغلغل الآن عبر الحواس، وجلب ذلك من ثمّ تغييرات في (سايكولوجيا) البشر. إن قابلية الزوال السريع تخلق راهناً في بنية كل من نزامي القيم العامة والشخصية التي قدمت بدورها سياقاً لانهيار الإجماع، وازدهار تنوع الغش والتزوير داخل مجتمع من الزخم الحسي الكثيف، وإلى الحد الذي يجعل تشريح مشكلات العيش المحلي المشترك التي كانت عند مفترق القرن يبدو، بالمقارنة، باهتاً وغير كافٍ. ومع ذلك، بسبب من نسبية خصائص التحوّل ، تحديداً ، ظهرت الاستجابات السايكولوجية تقريباً على حدود الحقل الذي حدده الشاعر، إنطلاق المنبهات الحسية، والإلغاء، ورعاية المواقف السهل، والتوزيع غير العادل للثرة، والعودة إلى صورة مجتزأة من الماضي (من هنا تأتي أهمية تذكارات الماضي والمتاحف والآثار)، والتبسيط الزائد، إما في تقديم الذات أو في تفسير الأحداث عبر شعرنتها. يؤدي التغيّر السريع، بالطبع، إلى صعوبات قصوى على مستوى الانخراط في أي تخطيط شعري يقيني بعيد المدى، ومعرفة كيفية لعب ورقة الهشاشة على الوجه الصحيح :
((طرية ألسن المترفين/ وهي تريق المديح بإسراف/ للزمن الذي نتقاسمه وإياهم/ نحن لانضاج الحياة/ وهم: لالتهامها)) (ص27).
إن أحد انعكاسات ما جرى في العنوان الرئيس للمجموعة (شجرة اليقين) كان تنامي حسّ التوحّد بين مواطنين كانوا في ما مضى منعزلين بعضهم عن بعض بالمسافات وبالنقص في التواصل. لكن التوحّد لم يبعث مع ذلك أماناً واضحاً على الدوام، فالحيرة كانت توّلد أيضاً القلق من أن الجيران باتوا أكثر التصاقاً. كيف جرى التعبير عن هذا الغموض؟ يمكن في هذا المجال تمييز اتجاهين كبيرين ومختلفين في قصائد المجموعة استناداً إلى التشديد إما على الوحدة (وحدة اليقين) أو على الاختلاف (اختلاف اليقين). ويبقى التناوس قائماً بين الحالتين على أشده إلى أمد غير منظور، فليست هناك شجرة يقين واحدة في غابة الوجود المحترب.