شكيب كاظم
قلة من الناس هم الذين يتطابقون مظهرا ومخبرا، وأعني بذلك التطابق بين الفكر والتصرف؛ بين القول والفعل، وهذا لعمري سلوك باهظ الثمن في دول الراديكاليات الثورية! فالكثير من الأدباء والكتاب، تراهم يقولون ما لا يفعلون، وهو الوصف الذي أطلقه القرآن الكريم على بعض الشعراء. وبالأمس القريب قرأت في إحدى الصحف العربية الصادرة في لندن، عرضا لكتاب ألفه باحث فرنسي، يتحدث عن هذه المسألة في فكر الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (ت.١٩٨٠)، الذي توارى عن الأنظار، ولم يبد أي نشاط ضد الاحتلال الألماني لبلده في بداية أربعينات القرن العشرين، في حين قاومه عديدون؛ مثل شاعر المقاومة الفرنسية لويس أراكون، والروائي جيان مارسيل برولير، الذي اتخذ اسما مستعارا يكتب من خلاله هو ( فيركور)، فكان حساب الحقل يختلف كثيرا عن حساب البيدر.
المفكر عزيز السيد جاسم من هذه القلة القليلة المتطابقة فكرا وتصرفا، كتب في السياسة على مستويي التطبيق والتنظير، فحاول البعض ترويضه، لكنه ظل يقول الحق الصُراح في زمن الخوف والتدجين والترويض، وتصاعده بعنف وقسوة، فآثر الانسحاب تدريجيًا، هو يرى نفسه قائدا، وهذا حقه، قائدا في عالم الفكر والثقافة والأدب، عارفا مدى تأثير الكلمة المخلصة في الناس، والآخرون يريدونه جزءا من القطيع السائم.
قرأت أولى بواكيره؛ كتاب مخطوط طبعناه، كتبه وله من العمر تسع عشرة سنة؛ كان طالبا في دار المعلمين الابتدائية بمدينة الناصرية، تقرأ فتعجب لهذه الثقافة الواسعة الرصينة، وتعجب منها، إطلاع على الفلسفة الأوربية، وقراءة لجهود أساطينها الكبار، تقرأ ولا تكاد تعثر على خطأ نحوي أو لغوي أو إملائي، مما يؤكد عبقرية هذا الرجل وسبقه لزمنه، وإنه لو عاش في مجتمع حضاري لقدم الكثير الكثير، مع إن الذي قدمه المفكر عزيز السيد جاسم لدنيا الثقافة رائع وكثير ووفير.
وإذا كانت الموسوعية، ظاهرة قد بدأت بالانحسار، وطفقت سفنها تطوي أشرعتها إيذانا بالرحيل لا بل بالموات، في ظل هذا التراكم الثقافي المعرفي المذهل على مستوى العالم. ولا سيما بعد الانفجار المعلوماتي على الشبكة العنكبوتية، فإننا يمكن أن نصف فكر عزيز السيد جاسم بالفكر الموسوعي، فهو إذ كتب في عوالم السياسة، التي ما عتم أن غادرها، فإنه كتب في الأدب والنقد؛ فخص معروفا بن عبد الغني الرصافي بكتاب بعينه، فضلا عن كتاب آخر تحدث فيه عن التجربة الشعرية للشاعر المثقف حميد سعيد، وآخر عن شاعر العمود المدهش عبد الأمير الحصيري، الذي لولا التي كانت هي الداء، التي استحوذت على سلوكه وحياته لقدم لعالم الشعر الرائعَ والجميلَ وليقف إلى جانب شعرائنا الكبار: الجواهري، والسيد مصطفى جمال الدين، وعبد الرزاق عبد الواحد، ومحمد حسين آل ياسين، وكاظم عبد الله العبودي، كما كتب قصصا قصيرة وروايتين ( المناضل) و( الزهر الشقي).
ولأن الدنيا تتغير وتتطور، فلا ريب أن هذه التغيرات تلقي بظلالها على الإنسان، ولهذا رأينا تطورا وتبلورا في فكر الباحث عزيز السيد جاسم، مع اختمار التجربة والتقدم في العمر، فكتب في اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، كما بسط رأيه في كتابات الصحفي المصري محمد حسنين هيكل، فضلا عن غوصه المضني في عباب متصوفة بغداد، واقفا عند الحلاج، ومعروف الكرخي، والسَرِي السَقَطي ، وبشر الحافي، والجنيد بهلوان العارفين، وابي بكر الشبلي، راجعا إلى المصادر والمظان ومؤلفات المستشرقين؛ ماسنيون، وكولدتسيهر وآخرين.
كما درس عالم الغربة والاغتراب في شعر الشريف الرضي، فضلا عن كتاب ( محمد.الحقيقة العظمى) لكن الكتاب الذي أودى به وكان سببا في تغييبه هو( علي بن أبي طالب.سلطة الحق) الذي أثار عليه حفيظة الوشاة والمخبرين والعسس، ولهذا الكتاب قصة طويلة، فقد اعتذرت دار الشؤون الثقافية العامة؛ وهي المؤسسة الوحيدة للنشر ، اعتذرت عن نشر الكتاب فأحالته إلى وزارة الأوقاف للنظر فيه، التي عرضته على خبير– أحترم علمه- ابدى رأيا سلبيا فيه، فاغتنم السيد حضور الدكتور سهيل إدريس، ناشر مجلة ( الآداب) وصاحب ( دار الآداب) للنشر ببيروت؛ حضوره لأحد مهرجانات المربد، فعرض عليه مخطوطة الكتاب، فتولت دار الآداب نشره فثارت ثائرة الوشاة والحساد في العراق على السيد، وعدّوه تخطيا للحدود المسموح بها!
وإذ ضويق عليه في الصحافة الرسمية المؤممة منذ الثالث من كانون الأول ١٩٦٧، فإنه آثر الكتابة في صحيفة ( العراق)، وكانت هذه الصحيفة الكردية تتوفر على هامش حرية بسيط، فكان يكتب مقالا أسبوعيا ضافيا، يأخذ حيزه الواسع؛ صفحة كاملة، يناقش بجرأة لا تتوافر لدى كثيرين، قضايا حساسة تثير حنق الوشاة، ومنها ما زال في الذاكرة، مناقشة تزايد أعداد البارات في شارع ١٤ رمضان بحي الداودي. وهذا الانتشار السرطاني الذي غير وجه الشارع في ذلك الحي السكني، وما يجلبه من إزعاج لساكنيه، مبديا أسفه إلى ما آل إليه وضع بغداد حيث يخوض العراق الحرب على الحدود، وجبهته الداخلية تعاني هذا الانكسار القيمي والأخلاقي.
قلت في بداية حديثي هذا، إن قلة من الناس من تتطابق مخبرا ومظهرا؛ فكرا وتطبيقا لهذا الفكر، ومن هذه القلة النادرة؛ مفكرنا عزيز السيد جاسم، المعتز بذاته، الشامخ بعقله ومواهبه، فحصل الذي حصل، غيّب هذا العقل الجوال فخسرت ثقافة العراق والأمة العربية صوتا فريدا عتيدا، ستظل سنوات طويلة تعمل على ترميم الفراغ الذي خلّفه هذا الغياب المؤسي.