القسم الأول
د. سمير الخليل
في روايته التي تحمل الرقم (16)، (عن لا شيء يحكي) الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء في العراق- بغداد 2019، يوضح لنا الروائي “طه حامد الشبيب” جملة من القضايا التي حاول التصدي لها ومعالجتها في معظم رواياته السابقة، لكنه لم يصل إلى كشف الغموض الذي ظل يلفها، ونعني بها :
- العلاقة بين الواقعي والتخييلي وانعدام الخط الفاصل بينهما.
- إصرار شخصياته العجيب على مواصلة مشوار الحياة مهما كانت صعبة وقاسية بعناد ومواكبة لا يدانيهما أي عناد ومواكبة في الواقع المعيش. إذ أن هناك هدفاً ينبغي إدراكه حتى وإن كان إعدام الحياة ثمناً للوصول إلى هذا الهدف والقبض عليه.
هذه الرواية تدور حول أسرة فقيرة تصل إلى ذروة تفككها عندما تكتشف أن إحدى بناتها تحب شاباً فقيراً أيضاً، لكنه ناشط يساري مندفع ومتحمس، يقود التظاهرات الجماهيرية ويتصدر التجمعات السياسية المعارضة. تتعلق به الفتاة “حمدية” وتُغرم به، لذلك تظل تطارده أينما توجه، وتشترك معه في معظم نشاطاته اليسارية، بالرغم من جهلها بشؤون السياسة والحراك السياسي. من جراء هذا الشغف وبسبب هذه التحركات العلنية لفتاة شابة، وسيمة وفقيرة، تتهم اجتماعياً بالانفلات الأخلاقي والانزلاق نحو الخطيئة. وفي إحدى المظاهرات يصاب رأس حبيبها “حمزة” بضربة هراوة تفقده ذاكرته إلى الأبد، فيتنكر لها ويرفض مقابلتها والتعاطي معها، لكنها تصر على ملازمته وملاحقته على أمل أن تعود إليه الذاكرة، وعند ذاك تستطيع أن تلزمه بوعوده التي قطعها لها بالاقتران بها، وبهذا الاقتران الرسمي ستشطب على اتهامات المجتمع لها بالسوء وتخلص أهلها من العار الذي لحقهم من جراء ذلك. لكنه لم يسترجع ذاكرته، وأهلها تلبسهم العار حتى النخاع، على إثر ذلك تتطلق أمها لأنها لم تحسن تربية ابنتها ومراقبتها جيداً، ويصاب الأب بمرض السل القاتل، ويهرب باقي الأسرة إلى مدينة أخرى بعيدة تخلصاً من همسات وغمزات الجيران والخلان التي تحولت شيئاً فشيئاً إلى إهانات علنية ومقاطعة جماعية. وحده “حمادي” الأعمى، أخوها الأصغر، يبقى في البيت حارساً لشرفها المهدور أو حامياً لها من طمع الشبان المهتاجين المستثارين جنسياً.
إذن، الرواية تسرد على لسان “حمادي” الأعمى، الشاهد الأخير على كل ما جرى ويجري منذ بداية لقاءات “حمدية” مع الناشط اليساري “حمزة”، مروراً بنكرانه لمعرفتها وقد فقد ذاكرته، حتى انتحارها غرقاً في ماء النهر، أو قتلها والتخلص منها والإيحاء بانتحارها. وقيام “حمادي” بتهديم البيت “بيت الأسرة” طابوقة طابوقة، ومساواته بالأرض كيما يرضي رغبة المجتمع المحافظ بمحو تأريخ وكيان أسرة كاملة عاشت في يوم ما، أو في عمر ما، في كنف الكذب والنفاق والتزوير والخداع الممنهج الذي تحوّل بمرور الوقت والامتحان والخبرة والتراكم إلى خداع مؤدلج، خداع مذهبي يميز هذا المجتمع بمرآويته المضللة.
استمر هذا الدفع المتزايد إلى منتهيات ليس لها غلق، وكأن المؤلف يذكرنا بلا زمنية الحقيقة، أو يحثنا على التركيز على لحظة زمنية تكسر بشكل ذي معنى نسق الواقع اليومي المليء بالتناقضات.
تبدو الرواية رمزية، من جانب، حيث أن السارد “حمادي” الأعمى يتمكن بشكل شاعري، ومرن أن يدخل مستمعيه في صلب قضيته، وهي قضية أسرة ممتحنة، ومن ثمَّ قضية وطن مبتلى بأمراضه الداخلية الخاصة، وبالمؤامرات التي تحاك ضده من وراء الحدود، وكان يأسر مستمعيه بحكايته في جلسات خمر وسمر تتواصل عبر عشرات الليالي. ومن جانب آخر، تبدو القصة واقعية من حيث إنه يرتاب في كل ما يحكيه ويسرده بطريقة واعية، ويتصرف كما لو كان يستطيع منحها ذلك الصدق الواقعي، وتلك النفحة الوجودية- التأريخية. وبما أنه لا توجد عوائق حقيقية تمنعه من السرد، فلا يوجد دلالة على نفي هذا السرد أو تكذيبه من لدن مستمعيه، فنراهم يندمجون معه، ويتشوقون لمتابعة مروياته، ليلة بعد ليلة، يضحكون مع ضحكه، ويجهشون بالبكاء مشاركينه نكبته. لابد أن سبب ذلك الاندماج هو التعاطف الإنساني والتشارك في الألم، وليس طقساً أو خرافة أو تخييلاً محضاً مثلما حاول السارد العليم ومن ورائه المؤلف إفهامه لنا.
ويبدو أن المحرك الرئيس لرواية “حمادي” هو طبيعة الفكرة الرمزية المجردة التي سيقت منها تلك الرواية، بوجه خاص، من أن الفقر قدر مكتوب، ورصيد حظوظ الفقير في تناقص مستمر مدى الحياة، ولا خلاص من ذلك إلا بالموت. ومع ذلك ، لا يتصرف “حمادي” كما يجب على قدر إطار الصورة الرمزية، وإنما يتصرف على أنه شخصية واقعية وقعت في أسر البنية الرمزية، التي يبدو أنه واع لها بشكل لا فكاك منه، فعلى سبيل المثال: لديه “وساوس قهرية” عن وجوده في بيت الأسرة، فقد تركه أبوه لحماية “حمدية” من المعتدين الذين يكثرون في الليل عادة، وأوصاه أن لا يترك البيت ولا يتهاون في حماية أخته من الذين يحاولون تلطيخ شرفها واغتصابها بحجة أنها “منفلته” و”منحرفة”. وقد فكر مراراً في اللحاق بأسرته التي هاجرت إلى مدينة بعيدة هرباً من العار، ولا يمكن للشكل الرمزي الخالص أن يتحدى البنية التي حددتها قواعد الرمزية ذاتها، وإنما يمكنه –فقط- اتباع متطلباتها الضاغطة، وفضلاً عن ذلك، فالقول بأن الحكاية عبارة عن لا حكاية، وهو منهمك بسرد لا يعني أحداً، لأنه عن “لا شيء” يحكي، وأنه غير متأكد حتى من وجوده ككائن حي، وأن كلماته تبدو كأنها نابعة من “لا معقولية” خالصة، يلمح إلى أن “حمادي” الأعمى هو صورة (شخصية) واقعية قادرة على بناء صورة ذهنية للذات، وليست صورة رمزية خلقها المؤلف أو انتجها سياق غامض جاء من حياة غامضة: ((أنا اتحدث عن لا شيء، حكايتي عن لا شيء، لأني لم أر كل ذلك، إلا أن مخيلتي ترى وتسمع وتترك أمر التفسير)) (ص76). ((أريد أن أحكي لكم حكاية ما أدري شنو، حكاية عن لا شيء، الأعمى خير من يحكي عن لا شيء)) (ص9). إذن، الكلام عن “اللا شيء الجوهري” هو كلام التخييل، والأعمى هو شخصية واقعية وحدها القادرة على بناء صورة ذهنية للذات.
مزج “طه حامد الشبيب” الرمزية والواقعية في هذه الرواية، وحوّل أكثر الإشارات الرمزية توكيداً في حكايته الإطارية إلى إشارات توحي بأنها ذات خاصية واقعية بكونها تمتلك جذراً واقعياً. إن استخدام المؤلف لسارد أعمى، ريبي وشكاك ومستبسل في الذود عن شرف أخته المهدور يؤدي، شاء أم أبى، إلى جعل الوضع الشامل للرواية ملتبساً، من خلال الشك في سلطة القوى الخارقة في صنع الأحداث، والشك كذلك في قدرة القوى الأصولية على ضبط حركة المجتمع وتوجيهه إلى ما يفيد الصالح العام (فقد تعرضت خاتمة الرواية إلى هذا الموضوع وأشبعته سخرية وتندر تحولا بمرور الوقت إلى شتائم علنية واستنكار عالي النبرة).
لذلك سيغدو هذا الشك وسيلة ناجعة لتأييد سلطة القصة وصدقها عن طريق اثبات مصدرها الأسطوري أو الخرافي، وقد وصل سارد الرواية الأعمى إلى ذلك، بل أن كل شخصيات الرواية قد وصلوا إلى ذروة الشك، فقد كانوا مهيئين لتقبل ذلك بوصفهم فقراء معدمين، أو أنهم ورثوا هذه الحالة من أجيال سابقة عانت من الظلم والعنت والفقر قبلهم، أو أن هناك من أوحى لهم بذلك، شخص ذو سلطة، مثقف أو سياسي أو داعية يتلاعب بعقول الناس، أو كان كل ذلك من إيهام المؤلف الحقيقي بوصفه الشخص الوحيد، موضع الثقة، الذي يقف وراء الشخصيات، وهو الذي يحرك الأحداث، ويمهد أرضية المسرح للاعبين المنتخبين (الذين تم رسمهم من قبله) أو الذين تسللوا إلى مسرح الأحداث بغفلة من المؤلف وهولاه باستطراداته المريرة.
ذلك الرفض للاعتراف بمصدر أصلي للشك يسمح للسارد الأعمى بتبني نغمة شك بها يستطيع، حتى وهو يسرد الأحداث التخييلية على أنها حقيقية، أن يقتطع جزءاً من احتمالاتها ويشكك في كل ما سوف يسرده : ((إن كنت لا ترى الشيء وتحكي عنه فإنك بذلك تتحدث وتحكي عن لا شيء)) (ص10).