نص روائي مثقف تناوب على تقديمه أكثر من راوٍ
شكيب كاظم
بعد روايته الأولى ( ذاكرة أرنجا) الصادرة عن دار فضاءات في الأردن سنة 2013، وعدد من المجاميع القصصية ( تماثيل تمضي.. تماثيل تعود)2001 و(تفاحة سقراط) 2005 و(شرق بعيد)2011 و(تراتيل العكاز الأخير)2015، ها هو يقدم لنا روايته (لماذا تكرهين ريمارك؟) في إشارة واضحة إلى الروائي الألماني (أريك ماريا ريمارك) الذي أتحف الفن الروائي العالمي بإنجازاته ومنها، تلك التي نقلت إلى العربية وهي (للحب وقت.. للموت وقت) و(كل شيء هادئ في الجبهة الغربية)، التي حولت إلى شريط سينمائي باهر، فضلاً عن (ليلة لشبونة).
محمد علوان جبر؛ القاص والروائي والمهتم بفن السينما، مشاهدة ونقدا وكتابة، هذا الموهوب الأنيق، الذي يهفو لتقديم الأفضل لقارئه، قلقه الجميل على نصه، يدفعه إلى إعادة كتابة عديد فصول روايته مرات عدة، حتى يرضى عنه، كي يرضي قارئه، استخدم في روايته هذه (لماذا تكرهين ريمارك؟) التي أصدرتها سنة 2018 دار الحكمة في لندن؛ عديد فنون السرد الروائي في هذا العمل الباهر، الذي لا يقدم نفسه لقارئه بسهولة، إنه نص محبوك بفنية عالية، ويحتاج إلى قراءة متأنية، هل أقول مضنية؟! كي تفك مرموزاته وتستطيع أن تصل إلى خوافيه وخوابيه، ولأن النص مرآة الناص، ليدلنا ذلك إلى ثقافة شاسعة لكاتبه، فلقد استخدم الروائي العراقي المبدع محمد علوان جبر، مستويات عدة في سرده الروائي، وتناوب على كتابة نصه أكثر من راو؛ الراوي المركزي، فضلا عن ( رندا البعلبكي)، التي قدمت لعالم السينما أكثر من فيلم، وكانت متضلعة من كتابة سيناريو العديد من الأفلام، التي تعرف إليها من خلال زميلته ( سميرة اليعقوبي)حيث عملا سوية في إحدى صحف بيروت، يوم غادر العراق أواخر سبعينات القرن العشرين، حيث اشتد العصف السياسي، ترى متى خفت العصف السياسي في العراق؟!
وإذا كانت روايته الأولى ( ذاكرة أرنجا) قد استفادت من فن الروي البوليفوني؛ متعدد الأصوات والشخوص، فإنه في هذه الرواية ( لماذا تكرهين ريمارك؟)-كما قلت- استفاد من عديد فنون السرد ، إذ استخدم ما يعرف نقديا بـ( تيار الوعي) ، الذي أبدعته الروائية البريطانية؛ فرجينيا وولف فضلا عن الدبلني جيمس جويس، وانثيال الأفكار لدى استذكار أيامه في العراق، حتى عرف عنه سهومه، وذهابه مع أفكاره بعيداً، وهذا ما لمسته منه صديقته وزميلته الفلسطينية سميرة اليعقوبي، التي كثيرا ما حدثته عن أيامها في بلدها فلسطين، قبل الاستيلاء الصهيوني الغاشم عليه، عن الشجن الذي تثيره أغان قديمة، تستذكر الطيور التي تفزعها طلقات اليهود، عن الحماسة التي تنتابها وهي تسمع مارسيل خليفة يغني قصائد الشاعر محمود درويش، هي الطامحة بإخراج فيلم روائي طويل، حاملة كاميرتها، عاملة مع المقاومة الفلسطينية، توثق معاركها باللقطة التي تقاوم النسيان، لكنها تحولت إلى العمل بالصحافة، بعد أن اغتال الموساد الصهيوني زوجها، كانت زاخرة بالحيوية والأمل.
شخوص رواية (لماذا تكرهين ريمارك؟) قليلون، استطاع روائينا محمد علوان جبر من خلالهم تقديم نصه الروائي الجميل هذا، فـ(برهان) الفنان النحات، خريج معهد الفنون الجميلة، والمشتغل في إحدى دوائر الدولة الفنية، ينقل بسبب آرائه السياسية إلى عمل لا تربطه به أية وشيجة ( مؤسسة تجارة المواد الغذائية)! محاولة من الدولة لزيادة هيمنتها، وشيوع أفكارها وإجبار الناس على اعتناقها! وازاء ازدياد سعير الإقصاء وتقزيم الآخر، يأخذ طريقه لواذاً نحو بيروت، لكنه يظل يمني النفس بالعودة إلى وطنه العراق، ولاسيما بغداده، حيث أهله وأصدقاؤه، وأخته (ثريا) التي تعادل عشرة رجال كما يصفها هو، فضلا عن صديقه وجاره ( أكرم عبد الرحمن).
الرواية تكاد تؤرخ لنحو ربع قرن من الزمان العراقي العاصف، منذ سنوات السبعين من القرن العشرين، وحتى وصول الأمريكان إلى هذا البلد، الذي أوغلوا فيه قتلا وتخريبا، وأشاعوا فيه الفوضى الخلاقة؟! لذا لجأ محمد علون جبر إلى استخدام تيار الوعي- كما قلت آنفا- لحبك نصه الروائي هذا، فضلا عن استخدامه الغرائبية السحرية والفانتازيا الفاجعة، لابل اقترب حتى من عوالم الرواية البوليسية، لدى قيام الجيش الأمريكي بالتحقيق مع ساكن تلك المزرعة في منطقة المدائن، إذ تحدث مصادفة أن تعلق مظلة النجاة لأحد كبار ضباط الجيش الأمريكي بشجرة باسقة، فيقدم له مساعدة ويؤويه، لكنه دفع ثمن هذا الإيواء غالياً، مداهمات مستمرة، وتحقيقات، بحثا عن هذا الضابط الذي علقت مظلته بتلك الشجرة، وكانوا يرومون التخلص منه، ربما لما يكتنز من أسرار، وخشية إفشائها، وهذه خصيصة فنية تضاف إلى خصائص بناء هذه الرواية الشائقة.
تقرا رواية (لماذا تكرهين ريمارك؟)، فتجد نفسك منسابا مع لغة راقية ووصف أنيق أنيس، لا يكاد يعكر صفو قراءتك خطأ نحوي أو غلط لغوي، لابل لا نجد في كل هذا النص الروائي، الذي امتد إلى مئة وثمانين صفحة، خطأ إملائياً فتسعد وتفرح، إنه نص روائي مثقف، نص روائي عالي المستوى، صدر عن قلم مثقف، يحتاج قارئا مثقفاً، كي يفكك مكنوناته، ويسبر أغواره، ويستمتع بقراءته.