كاظم مرشد السلوم
يتميز الفيلم الوثائقي بخصوصية تعبيرية يتناول من خلالها الواقع وموضوعاته التي يريد تقديمها للمتلقي من خلال الصورة والصوت لانهما “العاملان الوحيدان اللذان يجمعان بين صفتي الضرورة والكفاية” ، إذ يمتلك الفعل الدرامي تأثير أكبر لأن لهذين العنصرين احقية في التمثل كرسالة فنية ذات دلاله معينة تصل إلى المتلقي ، وهو بذلك يختلف عن السرد في الأجناس الأدبية الاخرى ، فالسرد في السينما “أكثر شمولية من السرد لأنه ينهض على ما هو مسرود متلفظ به ، وما لا ينطق به، وبما أن أول تعريف ارتبط بالفن السينمائي هو “سرد القصص عن طريق عرض صور متحركة” ، وهو تعريف أطلق إلى حد ما على السينما الوثائقية تحديداً بوصف البداية الأولى للسينما جاءت من خلال الأفلام التسجيلية الأولى ، استمر صانعو الأفلام الوثائقية بالاعتماد على النظام السردي السينمائي ، حيث كان في البداية عبارة عن صورة فقط ، وليلحق به الصوت بعد ذلك وليكونا معاً نظامين سينمائيين مختلفين ، لكنهما يتوحدان في النظام السردي السينمائي .
والفيلم الروائي عند تناوله للواقع يعرض هذا الواقع في شكليين سرديين هما السرد الموضوعي والسرد الذاتي وتكون آلة التصوير هي الأداة الرئيسة في هذين الشكلين فتقوم بسرد الإحداث والوقائع المادية في السرد الموضوعي ، حيث تطلعنا على كل الشخصيات وعلى كل ما تفعله ، فهي تخترق أفكارهم وتكون في ذلك على مسافة واحدة من كل الشخصيات والأفعال لأنها تقوم بعرض ما يقع إمام عدستها بحيادية دون أن تتخذ وجهة نظر شخصية ما، إلا أنها أي آلة التصوير في السرد الذاتي لا تكون كذلك بل تكون عين إحدى الشخصيات الاخرى التي تقوم بنقل الإحداث وما تقوم به وما تفعله الشخصيات وبذلك تلعب الكاميرا هنا دور الراوي وهو يمارس أفعاله سواء بشكل ظاهر او مختف أذ يمكن أحيانا أن نسمع صوته من خارج الكادر، عند ذلك يأخذ المتلقي وجهة نظر الراوي ليقوم بتأويل الأفعال ومدلولات الشخصيات الدرامية على أساس ما تعرضه (آلة التصوير)، إن اختلاف السرد الذاتي في الفيلم السينمائي يرتبط بالدرجة الأساس بمستويات أو موقع الراوي من الإحداث المعروضة. وعادة ما يكون السرد الذاتي والموضوعي في الفيلم الروائي خاضع لسيناريو معد مسبقاً، ولكن الفيلم الوثائقي لا يشترط ذلك وان كان يشتغل ضمن دائرة الشكليين السرديين الموضوعي والذاتي من خلال توظيفها لإبراز الواقع ضمن أطار درامي يمكن من خلاله استقطاب المشاهد وحثه على متابعي الفيلم ومشاهدة الواقع وما فيه من احداث وفقا لهذين الشكلين السرديين اللذين يضعان الاحداث في سياق سردي مقنع على وفق شرطي المنطقية والبساطة. و لابد ان تكون هناك خصوصية ضرورية وملحة لمفهوم السرد في بنية الفيلم الوثائقي لاسيما وإن عملية الترتيب الزمكاني مع بنية الاحداث ترتبط باشتراطات الحقيقة والواقع أي فلسفة الفيلم الوثائقي .
ومن هنا نلاحظ إن الأنساق السردية العاملة في الفيلم الوثائقي لا تمتلك التنوع الكبير الموجود في الأنساق السردية داخل الفيلم الروائي، وإنما ينهض الفيلم الوثائقي على نسق سردي أوحد يتمثل بالنسق التتابعي أو الخطي ، أي عملية جريان الاحداث بشكل مشابه لجريانها في الواقع من دون أن يخالف التجربة الحياتية للمشاهد، فلا ارتدادات زمنية ولا قفزات مستقبلية بل تتبع خطى للأحداث من بدايتها حتى نهايتها بسيادة (الآن) ، ولكن اعتماد الفيلم الوثائقي على النسق التتابعي لاي مثل وهناً أو محدودية في بدايته التعبيرية بل يشكل عامل قوة للفيلم ككل، لأن هدف الفيلم الوثائقي هو اقتناص الحقيقة داخل الواقع وهذا يعني عملية تتبع مباشر لها ، فضلا عن كون زمن اللقطات والمشاهد في الفيلم الوثائقي تكاد تكون مماثلة لزمنها في الواقع وهذا الأمر لا يمكن حصوله إلا نادرا في الأفلام الروائية .
وأخيرا إن سردية الفيلم الوثائقي تعتمد النقل المباشر ومتابعة الفعل في فضاء المكان وهذا ما يجعله حريصا على اعتماد الحاضر في نقل الاحداث من دون الغور في ارتدادات ذاتية قد تمثل وجهة نظر صانع العمل أكثر من الشخصيات المشاركة في الفيلم .