هيثم الزبيدي
وباء كورونا شيء محبط. ابتداء من العزل الذاتي، إلى توقف الأعمال، إلى الاصابات والآلام والوفيات، إلى عودة الحدود وتوقف حركة العالم، إلى التفكير بتبعاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وصولا إلى الإحساس بأنك عاجز أمام شيء غير مرئي. لا توجد بالطبع جثث ممدة في الشوارع أو مصابون تحولوا إلى زومبي مخيف كما أتحفتنا الأفلام على مدى العشرات من السنين. الأمور هادئة نسبيا، ولعل الاستجابة بمغادرة الشارع والاكتفاء بالجلوس في البيت، في إجازة أو عمل عن بعد، كانت لافتة. السيطرة الحكومية تبدو أقوى مما كنا نتخيلها في فرض تعليمات الحجر، والسيطرة الإعلامية أهم وأعمق في تهيئة الناس نفسيا لقبول ما لم يكن بالحسبان. لكن كل هذا لا يمنع من الإحساس بالإحباط.
لمجلة ثقافية يبدو الإحباط بأبعاد مختلفة وكثيرة. من الناحية العملية، تضطر أن تنشر عددا مزدوجا وتؤجل الطباعة لأن اللوجستيات إما صعبة او متوقّفة. المطبعة توقفت لأن الورق متهم بنقل الفايروس. لو مرّت قضية الطباعة ووجدت مطبعة بديلة، فكيف تحل مشكلة التوزيع. لا سيارات تنقل ولا مكتبات تستقبل ولا طائرات توصل العدد الجديد إلى أيّ من الأسواق العربية التي تهتم بمجلة ثقافية. طاقم المجلة يجلس كل في بيته بانتظار الضوء الأخضر ليقول “ها قد عدنا”.
لكن الأبعاد الثانية لا تقل أهمية. خذ مثلا إحباط الناشر أو رئيس التحرير أو الكاتب. ينشرون ويكتبون عن التنوير، ويخلصون في تقديم أفكار يعتقدون أنها تغيّر في بركة المياه الراكدة في واقعنا المعرفي والفكري. سنوات من العمل والمثابرة في محاولة تحريك الوعي ليخرج من الخرافة والتفسيرات الميتافيزيقية، لتجد نفسك أمام ردة فعل شعبية قدرية، حتى عند من يفترض أنهم من قرائك ومن أثّرت فيهم بالكتابة والحديث على مدى سنوات. بعد مئات الآلاف من الكلمات التي سطرناها على هذه الصفحات، لا تزال شريحة كبرى من مجتمعاتنا، من الأميّين والمتعلمين على حد سواء، تستمع إلى رأي رجل الدين والعراف وأشباه الأميين من مفسّري علامات الساعة. كمية الكلام المتداول على الوسائط الاجتماعية هائل. ومن يستخدم فيسبوك وتويتر وواتساب نفترض أنه متعلم ولديه الحد الأدنى من المعرفة بالأدوات العصرية في عالم متصل. لكن الكثير من هذا الكلام لغو وترديد لأدعية وتمنيات، بدلا من أن يكون نقاشا في لحظة مفصلية وتريّثا لإدراك ما يحدث من حولنا، وما يمكن أن يجرّه الوباء علينا من كوارث نفسية واجتماعية وسياسية، أكبر بكثير من غريزة البقاء الشخصي. بعد سنوات من النشر والكتابة والاهتمام والإنفاق، تكتشف أنك كنت تحرث في البحر. في مجتمعات غيبية، لا تتغير الأمور إلا لكي تعود إلى حالها.
الإحباط أيضا يتواصل إلى ما نعد به أنفسنا من رغبة في التقدم والتطور. لا أعرف كم هو عدد الجامعات والمعاهد العلمية المتخصصة في عالمنا العربي. هو عدد كبير لا شك، بالمئات وربما بالآلاف. وفي كثير منها – ونظريا كلها – كليات ومختبرات للدراسات الصحية والبيولوجية. هناك عشرات الآلاف من الباحثين وأساتذة الجامعات والأطباء ممن يتخصصون – نظريا – بالبحث العلمي الصحي والطبي والبيولوجي والمخبري. منهم نسبة كبيرة يجب أن تكون الأوبئة شاغلهم الأول، طالما لا زال في مجتمعاتنا ما يكفي من التخلف ونقص البنى التحتية وتراجع الخدمات الصحية والبلدية، ممّا يسهّل انتشار الأوبئة. تتصفح يوميا الأخبار وتجد أن العلماء والباحثين في كل العالم يعملون على مدار الساعة على أمصال واقية واختبارات كشف فعالة ومحاولات لإيجاد العلاج للفايروس. لكن لا تسمع أو تقرأ بأن عالمنا العربي مهتمّ بالأصل، بل ينتظر مشروع الإنقاذ الغربي أو الشرقي الصيني أو الهندي أو الياباني. يوتيوب مليء بخبرائنا وأطبائنا يفتون بالنصائح والإرشادات، وكنا نتمنى أن يكونوا في مختبراتهم يضيعون الوقت مع الفايروس في محاولة رصده وتحييده، وليس معنا. الفايروس لا يمكن أن يقتل بالصدفة أو من خلال معجزة كتلك التي تطل علينا في صحفنا يوميا عن اكتشافات “علمية” عربية لا تتوقف عن علاجات لأمراض السرطان والإيدز والكبد الفايروسي. بالطبع كلنا نعرف أنها اكتشافات وهمية لا قيمة لها. “صباع كفتة” على أقصى تقدير. اكتشافات تعزز الإحباط.
يقال إن الطاعون كان لحظة فارقة في حياة أوروبا، حين أدرك الناس أن الدجل والخرافة والأفكار الغيبية لا يمكن أن تنقذهم. يعتقد مؤرخون أنها كانت لحظة الحقيقة، على الأقل لبعض التنويريين ممن وجدوا الفرصة لتنبيه الناس وحثهم على النظر لحياتهم بشكل مختلف. بقية الحكاية في الغرب من عصور النهضة والتنوير والثورة الصناعية والطبية والعلمية والتقنية معروفة. متى تبدأ حكايتنا؟
*عن مجلة الجديد