القسم الأول
د. نادية هناوي
لقد انشغل نقاد السرديات كثيراً بالكيفية التي بها يجوز لكاتب القصة القصيرة أنْ يعبِّر عن اللحظة التي يقتنصها من أعماق الزمان الذي فيه تتجمع اللحظات على سعتها، جاعلاً شخصيته تعيش تصارعاً مع تلك اللحظة. وغالباً ما يكون هذا التصارع مؤلماً ومشوباً بالتأزم الذي ينتهي بانتهاء اللحظة فيتحقق التوهج. وأهم معضلة واجهت هؤلاء النقاد معضلة الاحتواء المكاني لزمانية اللحظة ومنطقية تجسيدها سواء بحدث يقوم به فاعل سردي واحد على الأغلب أو بأدائية دينامية تترجح عبرها كفة الذات في التعبير عن رؤيتها للعالم.
ويبدو أن مكمن التأزم السردي هو الذات التي بمجرد احتوائها اللحظة مكانيا، تنتهي معاناتها وينفرج تأزمها، وبغض النظر عن مقدار القصر في اختزال الاحتواء، لان المهم هو أن يكون السرد متمشكلا من جراء التعادلية بين تجسيد الفكرة تجسيدا مكانيا مكثفا في قالب مختزل، وبين احتواء عناصر نوع آخر وصهرها في قالب، ولا فرق في ذلك بين أن يكون هذا النوع قصيرا أو كان أقصر من القصير.
التجسيد السري للحظة المعيشة
والحقيقة أنَّ تجسيد المكان هو الذي يفضي إلى إحتواء الزمان، أي أن الفكرة هي التي تفرض على القاص طبيعة الاحتواء في القصص التي يكتبها، وبالشكل الذي يحتِّم عليه أن يكون في وجود الذات تجسيدًا واحتواءً وجود الآخر، حيث لا حدَّ يفصل بينهما ولا اختلاف يحيد بأحدهما عن الآخر.
بهذا يصبح الحديث عن التجسيد السردي للحظة المعيشة هو الحديث نفسه عن التجنيس الكتابي لسردية تلك اللحظة التي منها تتخذ صورتها النهائية التي بها تتميز القصة بقصرها في حدودها المعلومة والمعبرة عن فرادتها جنسّا عابرا لأجناس السرد الأخرى. أمّا مسألة التحديد العددي أو الكمي لمساحة الكتابة على فضاء الورقة، فذلك ما يظل مائعا لأن عدد الأسطر وحجمها لن يغيّر من الأمر شيئا، ما دام الاحتواء حاصلا بالميوعة ومفروغا منه بالتجذر أصلا.
وقد يحصل عند بعض كتّاب القصة القصيرة فهمٌ معكوس لمسألة الاحتواء، فيجعل القصة القصيرة نفسها محتواة في القصة القصيرة جدًا التي هي فرع وليست جنساً. وإذا كان الكاتب هنا يتمرد على الاعتقاد المتداول حول حجم الكتابة ومساحتها قصرا أو طولا؛ فإنه ايضا يقلب العبور الذي ينبغي أن يكون في الأساس من الفرع إلى الأصل، ليجعله من الأصل الذي هو ( القصة القصيرة) إلى الفرع الذي هو( القصة القصيرة جداً) وكأن عملية ( العبور ) تفترض صهر الجنس في النوع وليس العكس، وذلك ما لا يمكن حصوله اذ لا يمكن أن ينصهر الجنس في النوع .
والكاتب إذا جرّب أن يجنِّس نصوصه على هذه الشاكلة أعني أن يتقصد وضع عنوان جانبي مع العنوان الرئيس، فإن ذلك يظل في حدود التوصيف وليس التجنيس. والكاتب بالطبع حر في توصيف عمله فيعطيه ما يشاء من مسميات. من أمثلة هذا القلب في احتوائية القصة القصيرة قصص( روشيرو ) للقاص حسين رشيد والصادرة عن دار الرافدين 2018 وقد وصفها كاتبها أنها قصص قصيرة جداً.
روشيرو.. نصوص جامعة
والمتفحص للنصوص سيجد أنها لم تعتمد القصر معيارًا؛ بل كانت لكل قصة مساحتها السردية الخاصة بها ومن دون أي ضابط معياري لتغدو كل واحدة قصة قصيرة عابرة لأنواع أقصر منها وأقصر جدًا حتى أن مساحة بعض القصص تعدت القصر وتمشكلت مجزأة في مقاطع نصية تفصل بينها فواصل رقمية أو أشارية، وبعضها ضاقت مساحة سرده الى أبعد من القصر فكانت كالومض البارق، وبعضها الآخر امتدت مساحة سرده باعتماد أنساق البناء بالتوالي والتتابع والتنضيد.
ولم ينحصر هذا التضاد في حدود العنونة والمتن ما بين الرؤية التي لا تعتمد الطول معيارا في بناء النص، وبين الرؤية التي تتقيد بمعيار القصر؛ بل تعدى التضاد إلى المتعالقات النصية والخارج نصية، المتمثلة بالاستهلال الذي هو تناص مع الكاتب والقاص الغواتمالي مونتيروسو، ثم بالتقسيم للعنوانات الفرعية الداخلية وأخيرا بتعليق الناشر المثبت على الغلاف الخلفي الخارجي للمجموعة.
وهذه المتعالقات هي مؤشرات تؤكد التضاد بين التوصيف للقصص بأنها( قصيرة جدا) ، وبين الاشتغال المفتوح المساحة سرديًا والمعتمد على التجريب كتابيًا وشكليًا. مع بقاء الثيمة واحدة في القصص كلها ألا وهي التجسيد الرمزي للواقع المعيش بوصفه حيزا مكانيا للموت والإعاقة.
وبسبب هذه التضادية تجاوزت نصوص روشيرو صفتها التي أرادها لها مؤلفها كقصص قصيرة جدا إلى أن تكون نصوصا جامعة بين قصة قصيرة وثانية أقل قصرا منها وثالثة هي أكثر قصرا من سابقتها، معبرة بذلك عن احتوائية الأنواع السردية كالحكاية والمقالة القصصية والومضة والقصة القصيرة جدا في جنس القصة القصيرة كجنس عابر للأجناس، وليست كتاباً مفتوحاً.
وقد اتخذت المجموعة التجريب طريقا سالكة، فتحت أمام كاتبها مديات شكلية، بها تحقق المبتغى الموضوعي من القصص قاطبة. ففي أول نص من المجموعة وعنوانه( روشيرو) يغدو التجريب الشكلي موجهاً نحو الوصف لا السرد، في شكل صورة وصفية أدبية sketch جاءت في ثلاثة مقاطع، وقد غاب عنها الحبك والشخصية والمكان والزمان والدرامية، واكتفت بالوصفية القارة المعتمدة على رصد المكان والاشياء بعين الكاميرا في شكل موصوفات لفظية اعتمدت في الأغلب الجمل الأسمية القصيرة مع تناصات تلميحية ومجازات ايحائية ، جعلت المتن مشفرًا يماشي النزعة التلغيزية العامة التي اصطبغت بها متون مجموعة ( روشيرو).