يقول عالم الاجتماع الالماني يورغن هابرماس “لنرفع رؤوسنا علينا تحمل مسؤولية الماضي”. عبارة تعكس خلاصة تجربة مريرة عاشها الشعب الالماني ابان الهيمنة المطلقة للحزب النازي، وما شهدته تلك الحقبة المأساوية من جرائم وانتهاكات تجاوزت كل الحدود الجغرافية والقيمية، بمثل هذه الثقافة والمواقف الشجاعة والمسؤولة استردت الامة الالمانية مكانتها وحيويتها بين الامم، لتتصدر مجددا البلدان الاوربية في شتى المجالات. على العكس من ذلك ما يجري على تضاريس هذا الوطن المنكوب، بعد أن منحتنا الاقدار فرصة مشابهة لما عرفته المانيا بعد هزيمتها الشاملة في الحرب العالمية الثانية، عندما استأصل لنا المشرط الخارجي ورم “جمهورية الخوف”، حيث تم التفريط بفرصة “رفع رؤوسنا” من قبل طرفي اللعبة (من تلقف اسلاب “السلطة-الغنيمة” ومن فقدها) عندما قدم الطرف الاول أبشع الامثلة في التعاطي مع مسؤولية ادارة ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، من حيث الكفاءة والنزاهة والمسؤولية. أما الطرف الذي فقد السلطة وامتيازاتها (فلول النظام المباد) فلم نشهد من كل ذلك الحطام الذي تورط بأهوال تلك الحقبة، أية اشارة لا على وجود مثل تلك المواقف الآدمية “تحمل مسؤولية الماضي” وحسب، بل لا يجد الكثيرون منهم اية غضاضة في الاعلان عن حنينهم لمحطاته المشينة.
مع مثل هذه المواقف تجاه ما جرى من احداث ووقائع؛ يتحول كل ما يتم اجتراره من خطابات وشعارات واهازيج، تتغنى بالاصلاح والثورة والتغيير، الى مجرد حلقة مفرغة في بورصة المزاودات الخاوية. من دون التأسيس لموقف مشترك من الماضي، يجتمع عليه العراقيون من شتى الرطانات والهلوسات والازياء، لا يمكن انتظار حصول زحزحات نوعية تفضي بهم لامتلاك ما اخفقوا فيه طوال مئة عام من تاريخهم الحديث؛ أي مشروع (الدولة-الامة). قد يبدو مثل هذا الاهتمام لدى البعض مبالغا فيه، لا سيما من يتوهم منهم انه قد شكل قطيعة وذلك الماضي المثقل بالجرائم والهزائم والانتهاكات، لذلك نجدهم يستخفون بذلك الملف الحساس (تحمل مسؤولية الماضي)، لكنهم سرعان ما يدفعون ثمن ذلك غالياً، كما هو الامر دائماً مع المواقف البعيدة عن المسؤولية والحكمة. هذا الملف المهجور يكشف عن عدم جدية المجتمع العراقي (افرادا وجماعات) في التصدي للتحديات الحالية والمستقبلية، فطي صفحة الماضي لا يعني التنصل عن تحمل مسؤولية ما حصل، وبالتالي ترك ابواب الوطن المشترك مشرعة أمام جولات جديدة من الكوارث والاهوال.
انها مهمة لا يفضي الهروب منها، سوى المزيد من العتمة والمتاهة واختلاط الاوراق والادوار، وكل من يتابع بانصاف غرائبية المشهد الراهن، بمقدوره تلمس آثار وعواقب ذلك، عندما يتحول غير القليل من مرتزقة وجلادي النظام المباد وسكراب مخلوقاته المعطوبة، الى ثوار ودعاة حقوق وكرامة وحريات، بعد ان وظفوا وبشكل شيطاني كل ما تراكم لديهم من خبرة ودهاء وارصدة هائلة وحطام ملاكات، لدفع الاوضاع الى ما لا تحمد عقباه حاضرا ومستقبلاً. كي نتمكن من “رفع رؤوسنا” واسترداد قدرتنا في التصدي لما يواجهنا من مخاطر وتحديات مصيرية؛ لا مناص من الشروع في مهمة تدوين تاريخنا وسردياتنا الوطنية المشتركة، وكما قالت حنة ارندت “ان التوافق على وقائع التاريخ المشترك، يعد شرطاً جوهرياً للحرية”…
جمال جصاني