الأمواج القوية التي أحدثتها التظاهرات في مياه العملية السياسية مازالت تضرب سواحل الدولة العراقية بأكملها وليس الحكومة ولا مؤسساتها. ذلك أن الدولة أكبر من كل الكيانات التي تقف في ظلها. فأهم ركن من أركان الدولة وهو الشعب، مازال ثائرا، منتفضا، يسكن الشارع منذ 4 شهور مضت، على أمل تلبية مطالبه وتحقيق أهدافه التي خرج من أجلها، وقدم مئات الشهداء وآلاف الجرحى في سبيل تحقيق تلك المطالب. لا أحد ينكر أن التظاهرات حققت الكثير من الأمور التي لم تكن لتحدث لولاها، واسهمت في سن قوانين وتحطيم ثوابت حزبية وأيقونات سياسية كانت ترى نفسها حقا مطلقا، لا يأتيه الباطل من أي مكان.
لكن بقي الجانب الأهم من طلبات المتظاهرين التي تمثل طلبات الشعب العراقي بأكمله، طلبات محورية تمس جوهر العملية السياسية، كتسمية رئيس وزراء جديد، يكون ملائما للشروط التي وضعها المتظاهرون، والتي تتعلق أغلبها باستقلالية المرشح وعدم انتمائه للأحزاب الحالية ومقبوليته لدى الأوساط الشعبية أولا قبل الحزبية، وتعهده بالعمل على تحقيق بقية طلبات المتظاهرين الأخرى التي لا يمكن أن تتحقق من دون رئيس جديد للحكومة. القوى السياسية من جانب، تصر على ترشيح شخصيات محددة، لا تختلف بسوى الأسماء لكنها تتشابه في التوجهات والانتماءات. وهو ما يرفضه المتظاهرون، وحتى رئيس الجمهورية الذي تقع عليه مسؤولية تسمية رئيس مجلس الوزراء يرفض أي مرشح تتقدم به الكتل السياسية، لا يتفق مع توجهات المتظاهرين.
حتى أن بعض الكتل السياسية قامت بتخوين رئيس الجمهورية وطالبت بمحاكمته كونه لم يسم مرشحا لرئاسة الحكومة لحد الآن ويرفض الأسماء التي تقدم له من الكتل السياسية. إن ما يشهده الشارع هو أزمات وليست أزمة واحدة، أزمات سياسية واجتماعية وثقافية، لا أتصور أن تبعاتها ستنتهي حالما ينتهي هذا الأمر، بل ستستمر طويلا والسبب الأساس هو إصرار الكتل السياسية على مواقفها مقابل إصرار المتظاهرين على موقفهم الثابت، خصوصا وأن الشهداء مازالوا يتساقطون يوميا والرصاص الحي مازال موجها نحو صدورهم. فلو أن تلك الكتل، أنصتت لصوت الشارع الذي جاء بها للحكم، لما كان ما كان. وما ذلك الصوت، سوى مطالب تمثل بتسمية رئيس لمجلس الوزراء ولاؤه للبلد أولا وللمواطن، يمهد لاجراء انتخابات جديدة بعيدا عن القوانين التي تكرس هيمنة الأحزاب وتصادر صوت الناخب.
وهذا مطلب ليس صعبا ولا يتنافى مع مصالح البلد، فلو تحقق ذلك، لما حدث ما يحدث اليوم وسيحدث غدا من قتل وحرق لتجمعات المتظاهرين واستهداف اعلامي لهم، واتهامهم بشتى الاتهامات التي ما أنزل الله بها من سلطان. إن تجاهل المتظاهرين ومطالبهم لا يخدم العراق أولا ولا يخدم بقاءه بلدا مستقرا ذا سيادة ومكانة بين بقية الدول، فاستمرار قتل المتظاهرين وتجاهل مطالبهم كفيل بأن يعمق الأزمات الحالية ويؤدي بالبلد الى نتائج لا تحمد عقاباها.
سلام مكي