مصطفى ديب
كان الشّاعر الفلسطينيّ الراحل محمود درويش (1941-2008) يجد صعوبةً بالغة في اختيار عناوين قصائده ودواوينه الشِّعرية، شأنّه شأن كُتّاب وشعراء كُثر تؤرّقهم مسألة وضع العناوين المناسبة لمؤلّفاتهم. «دائمًا أجد صعوبة في اختيار العنوان، كما أنّني أستعين بأصدقاء في أحيان كثيرة، وأحيانًا أرسل المجموعة نفسها إلى ناشر من دون أن أعثر لها على عنوان». يقول مؤلّف «لا تعتذر عمّا فعلت» في وصف معاناته مع العناوين.
الكاتب والروائي المغربيّ محمد شكري كان يعيش المعاناة نفسها، تبعًا لفكرة ما برحت تُطارده بعد الانتهاء من كتابة النصّ، وهي أنّ العنوان «ينبغي أن يكون مثل عرف الطاووس، أو ذيله». بمعنى أنّه يجب أن يكون جذّابًا، كالرائحة واللون والملمس، وفق تعبير الفيلسوف الفرنسيّ رولان بارت. وعليه، نستعرض في هذه المقالة خمسة عناوين أدبية انتقاها أصحابها من القرآن الكريم.
أحد عشر كوكبًا
الراوي في ديوان «أحد عشر كوكبًا» (1992) يرى ما لا يراه الآخرون. لهذا السبب، على ما يبدو، اختار محمود درويش لديوانه عنوانًا مأخوذًا من القرآن الكريم. «إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ». (سورة يوسف، الآية 4). وبينما كان يوسف مُطالبًا بألّا يُقصّص رؤياه على أحد، كان الراوي في الديوان مُطالبًا بفعل العكس تمامًا، وبشكلٍ قدّم قصائد الشّاعر الفلسطينيّ الراحل بوصفها سؤالًا كبيرًا عن المصير الوجود، تقرأ الأخير، وتستشرف الأوّل. ناهيك عن أنّها بدت تجسيدًا لمرحلة زمنية مُعيّنة يُقبل فيها كلّ شيء على نهايته.
المفكّر الفلسطينيّ الراحل إدوارد سعيد رأى في قصيدة «أحد عشر كوكبًا على آخر المشهد الأندلسي» مقطوعات شعرية تنطوي على «نغمة الكلل وهبوط الروح والتسليم بالقدر، التي تلتقط عند العديد من الفلسطينيين مؤشّر الانحدار في أقدار فلسطين التي، مثل الأندلس، هبطت من ذروة ثقافية كبرى، إلى حضيض فظيع من الفقد، على صعيد الواقعة والاستعارة معًا». نقرأ في الديوان: «عمّا قليل سنبحث عمّا كان تاريخنا حول تاريخكم في البلاد البعيدة/ وسنسأل أنفسنا في النهاية: هل كانت الأندلس ها هنا/ أم هناك؟».
نادى في الظلمات
«وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ». يأخذ جولان حاجي من هذه الآية الواردة في «سورة الأنبياء» آخر ثلاث كلمات فقط، مُعنونًا بها مجموعته الشّعرية «نادى في الظلمات» (وزارة الثقافة السورية، 2004).
كتب الشّاعر السوريّ في مجموعته قصيدة معنية بالتفاصيل اليومية، ومُنشغلة بالتعبير عن الحزن والألم والعزلة. عدا عن أنّها شغوفة باللغة، وبفكرة إيجاد قاموس لغويّ ثريّ لنفسها أيضًا. وبين العناية بما هو يوميّ، وشغفها باللغة، جاءت قصيدة صاحب «ميزان الأذى» ترجمة حرفية لرغبته في بناء قصيدته على تجاربه الداخلية المُعاشة من جهة، وعلى اللغة وألاعيبها البلاغية من جهةٍ أخرى.
افتتاحية «نادى في الظلمات» جاءت بقصيدة تُحيل إلى قصّة النبيّ يونس الذي روتها الآية التي انتقى منها جولان حاجي عنوانه مجموعته. يقول في الافتتاحية: «أنا ريشة خوفي/ الرمادية، الخفيفة/ أنا دمية أنفاسي/ أجلس واحدق وأنتظر… وبيني والهاوية/ قوس قزح لا يزول». ومنها، الافتتاحية، ينطلق حاجي للكتابة عن «أنا» عارية وخائفة تحتمي باللغة. «في حجرتي وحش ساكت/ يوجعني هدوؤه/ وينديني لهاثه». يقول أيضًا: «محزوزًا بالبرد/ لامعًا بالأزيز».
ترمي بشرر
بنى عبده خال روايته «ترمي بشرر» (منشورات الجمل، 2010) على جُملة من المواضيع الصادمة والمثيرة للجدل كمأساة الفوارق الطبقية الحادّة في المجتمع السعودي، وفساد مؤسّسات الدولة، وظهورها، برفقة المؤسّسات الدينية، بصورة متناقضة لما هي عليه. عدا عن تسلّط الأثرياء على الفقراء، وبطش أصحاب المال والسلطة والنفوذ بالأثرياء. بالإضافة إلى العبث بحياة ومصائر البشر، وكذا العنف والقسوة وشرعنة العلاقات المُنتهَكة والمُنتهِكة أيضًا. ولكنّها، مُجتمعةً، لم تُثر الجدل الذي أثاره عنوان الرواية المأخوذ من «سورة المرسلات» (الآية رقم 32): « إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ».
وزّع الروائي السعوديّ مواضيعه هذه على مكانين: حيّ فقير يُطلّ على البحر، ويسكنهُ بشر بائسون يعتمدون في رزقهم على الصيد. وقصر شيّده أحد أثرياء البلد على الشاطئ تمامًا، فحال دون وصول السكّان إلى البحر الذي صادره «سيّد» القصر. بدا الأخير لهؤلاء قطعة من «الجنّة»، وإن حال دونهم ودون أرزاقهم، فجهدوا طويلًا للدخول إليه، وحينما فعلوا، ودخلوه خدمًا، تفاجأوا بأنّ القصر قطعة من «الجحيم»، يُغتصب فيه الرجال من قبل خدم «السيّد» وفحوله، وغالبًا ما يكون هؤلاء الرجال خصومه في العمل والسلطة. بالإضافة إلى خدمٍ تُقطع أطرافهم إن قصّروا في أداء أعمالهم، وتأخّروا في تلبية طلبات «السيّد» وتنفيذ أوامره. هكذا، يكون القصر الذي حجب الحياة عن الحيّ وسكّانه مسرحًا للتنكيل، وجحيمًا مُصغّرًا لا ينجو منه أحد.