د. نادية هناوي
لا خلاف أن التوظيف الدرامي في الشعر هو أعلى صورة من صور التعبير الأدبي وفيه يكون الشاعر هو القاص والروائي والمسرحي معا…والنص الدرامي ليس نصا كُتب ليمثل على خشبة المسرح بل كتب ليقرأ أيضا وأبعد من ذلك ليمثل ويقرأ أو يقرأ ويمثل لكن في حلبة الذهن لا حلبة المسرح. وهذه هي الدراما الشعرية الحديثة الواعية المتوترة الكامنة بين الوهم والحقيقة، وفيها يمتزج الشعر مع القصة إيقاعيا وموسيقيا وتأتلف الشخصيات وحواراتها وصراعاتها جماليا وانسانيا وبما يخلق شكلا إبداعيا تعبيريا معاصرا، فيه كثير من موضوعية التلاحم بين الفكر والشعور.
وقد ذهب بعض النقاد الى أن الدراما ليست هي المسرحية وأن الأدب الذي يكتب ليقرأ فقط هو أكثر مباشرة وأكثر استقامة وأحادية في جعل الدراما بمستوياتها المتعددة اكثر فنية في التعبير عن المعنى بموضوعية تضع عبء التأويل على كاهل متلقي التجربة أو المشاهد وفي هذا المجال تعد الدراما كالحياة نفسها أو هي كل الأشكال الأخرى للاتصال الأدبي في عملية وعيها بنفسها. واننا بقراءة رواية أو الإنصات إلى قصيدة ندرك أننا سنفهم كلمات مرت عبر وعي كائن بشري آخر هو مؤلف الرواية أو القصيدة. ولا غرابة أن يتسع هذا الفن ويشمل مختلف أوجه الحياة الإنسانية على أساس أن الدراما هي أصلب شكل يمكن للفن أن يعيد بواسطته خلق الأوضاع الإنسانية كما يمكن للدراما أن تكون أكثر من مجرد أداة ينقل بواسطتها المجتمع أنماط سلوكه إلى أفراده. والدراما ليست فقط امتن أنواع المحاكاة الفنية للسلوك الإنساني الحقيقي بل هي أيضا امتن شكل نفكر به في الأوضاع الإنسانية. وانه كلما علا مستوى التجريد نأى الفكر عن الواقع الإنساني والدراما أيضا شكل من أشكال الفكر وعملية إدراك ووسيلة نستطيع بواسطتها أن نترجم التصورات المجردة الى علاقات إنسانية صلبة.
وهو ما استوعبته تجرية بدر شاكر السياب الذي اختط قصائد تنكرت للغنائية المعهودة في القصيدة العربية، وتنامت لديه النزعة الدرامية منذ بواكير شعره الأولى، منتهجا طريقا جديدا يقوم على أساس احتواء قصائده موضوعات وظواهر تجمعها كلمة عزَّت على التعريف وأبت أن يكون لها وصف ما، هي (الدراما) وذلك في قصائد المومس العمياء وحفار القبور والأسلحة والأطفال وقصائد أخرى غيرها كانت كلها تسير في ذات النهج وتتبع ذات السبيل. وعلى الرغم مما في هذا النهج من العقبات والمصاعب فإن السياب آثر إلا أن يسير فيه متأثرا باليوت وستيويل وريلكه وبابلو نيرودا وغيرهم.
ويبدو أن ثقافة السياب الفلسفية قد انعكست في تصوره للعالم، ولو أخذنا قصيدة السياب (أسير القراصنة ) لوجدناها تحمل السمة الدرامية في طبعها واهتمامها بتفصيلات الحياة المعيشة بناء على رؤية شعرية متميزة في التعامل مع الحياة والإنسان وتناقضاتهما، وعلى ثلاثة مستويات :
أولا: مستوى البناء الفني الذي يجيء على مستويين جمالي وموضوعي، وثانيا: مستوى النسيج الفكري الذي ينقسم إلى: نسيج طبيعي حواري داخلي مونولوجي ونسيج طبيعي حواري خارجي ديالوجي، وثالثا : مستوى الأسلوب الفني وهو يشمل النزعة القصصية وتداخل الأصوات السردية والتزامن الفني بين الذات والموضوع. والقصيدة تبدأ بسكون قار وجمود ثابت منساب وبجمل إسمية تأخذ بعضها برقاب بعض، متجهة شيئا فشيئا نحو التحرك الخجول لتحيل الصمت إلى صوت، والسكون إلى حركة، والاسم إلى فعل، لتنتقل القصيدة بعدها إلى أجواء الدراما بالجمل الحركية وأصوات الخطاب والأفعال المضارعة التي تترى شيئا فشيئا مانحة النص استمرارية وبحركية دينامية متصاعدة.
وهذا اللعب التطريزي للصورة الشعرية يجعل تفعيلات القصيدة وايقاعاتها تتأرجح وتتزامن بين الوصف والحركة مما يزيد من تحقق الدرامية فيها. وقد أضفى التكرار على السياق تراتبية محببة ذات مفارقة تعكس سياقات مرجعية محددة :
وأنت ما كنت سوى صوت
صوت يدوي في قلاع الرياح
يا ليتك المشاء في صمت
لا عازف القيثار باسم الجراح؟
وتتلاقى السمة الحركية مع الموسيقية الصاخبة عبر تضاد الثنائيات (صوت / صمت ) (الرياح/ الجراح) ويكون في تلاقي (الدوي ـ العزف) درامية نابعة من طبيعة الفعل الذي يصوره الشاعر في لفتة فنية تعزز درامية الحدث وتبعد سكونية الفضاء الفارغ لكن المشهد الشعري لا يكتمل إلا بالوصف:
وأنت في سفينة القرصان
عبد أسير دون أصفاد
وهذا الوصف يتلاقى مع الجو الضبابي القاتم والسوداوي الذي يملاْ السياب نصه الشعري به، مما يجعل مشهد الأسر والقراصنة والأصفاد داخل سفينة مبحرة في عباب المجهول مشهدا حسيا كئيـبا يزيد الجو قـتامـه؛ فتبدو الدرامية وكأنها متراجعة قليلا لكنها سرعان ما تعود بنبرة الانزياح قالبة معادلة البناء من خلال توظيف الفعلية من جديد :
تقبع في خوف وإخلاد
تصغي إلى صوت الوغى والطعان :
سال الدم ،
اندقت رقاب ومال
وشكل الحوار بنوعيه الخارجي والداخلي وسيلة للفرار من سكونية المشهد كما عملت هندسة السطر الشعري الأخير بالتضاد مع الأسطر السابقة على الايحاء بسيميائية البنية الكتابية محققة التماثل ومعيدة التوازن وذلك من خلال حركة الأفعال وصوت المخاطب (أنت) . وتبقى سمة الثبوت (الخوف) والحركة (الصوت) متزامنتين، وهما تضفيان على الصورة الإصغاء الى صوت الحرب وملحقاتها(الطعن والدم والرقاب والمال ) لكن في دوامة الإبحار كدلالة إيحائية على البحث عن المجهول أو اللانهاية وفي ظل ربان عملاق :
ربانها العملاق
وقام ثان بعده ثم زال
فامتدت الأعناق
لأي قرصان سيأتي سواه
لأي قرصان ستعلو يداه
حينا على الأيدي !؟
تسمعها تأتيك من بعدِ
يحملها الإعصار عبر الزمان
ولياتِ من بعدي ..
من بعدي الطوفان
وفي خضم العباب والإبحار نحو المجهول واستدعاء حادثة الطوفان؛ يكون البحث عن النهاية مغيبا، وتكون خاتمة القصيدة مفارقة لبدايتها التي كانت هادئة عبر ثيمتي (الإعصار /البعد ) اللتين تدوران في الجو العام الهادر للقصيدة التي تظل سادرة في الغياب، ضائعة شأنها في ذلك شأن قصيدة حفار القبور التي فيها إجاد الشاعر توليف مشاهده الدرامية في إطار عام تلاعب فيه بالبنية التشكيلية البصرية وبالعلاقة المكانية للألفاظ والأسطر الشعرية معززا الرؤيا الوجودية الطافية على سطح القصيدة وبدلالية تضادية تفجرها المحسوسات ضمن بنية فنية فضائية ، مقدما المنظور البانورامي وقد اتسع مع اتساع المنظور المسرحي الدرامي السينوغرافي البصري لاسيما حين يصبح الحوار ـ سواء أكان خارجيا أم داخليا ـ متواترا أو تراتبيا، داخلا ضمن المشهدية المصورة داخل القصيدة وفي بنية أفقية ـ أسمية وعمودية ـ حركية في الآن نفسه.