لم يعد مقنعا الحديث عن النقد الادبي بوصفه مجرد مجال لساني تتبدى فيه الذائقة والانطباع والتوصيف العمومي فقط، بل أخذ الأمر منحىً آخر يربط مابين فعل النقد وفعل المعرفة، وعلى وفق مباحث ومقاربات لها حظها واسسها ومرجعياتها في الدرس والتحليل، وفي التوظيف المفاهيمي الذي عدّه جيل دولوز مجالا يخصّ الفلسفة.
الاقتراب الفلسفي من النقد يتعدى التوصيف اللغوي الى التأطير المعرفي، والى تغذية النص الادبي بكشوفات معرفية، وبأفكار لها طاقتها المُحفّزة على الكشف، وعلى مواجهة انسداد المعنى أو حدوده الاستعارية، وهذا ما يجعل فعل النقد في سياقه المعرفة أكثر تجاوزا للتقليد، وفي توظيف معطيات المعرفة للاقتراب من المعنى، أو في تمثيل الخطاب..
إن ما طرحته الفلسفات المعاصرة، لاسيما تلك التي ارهنت خطابها لقيم الحداثة، تتبدى في صياغتها النقدية للنصوص عبر أطروحات التواصل، والتي حاول هابرماس أن يجعل من قراءتها مجالا مفتوحا على فكرة اللا اكتمال، وأن القراءة النقدية في هذا السياق هي الجدوى التي يتجوهر عندها فعل الحداثة في قيمتها أو في خطابها، أو حتى في تمثلها المفاهيمي.
مشكلة النقد الادبي عندنا تكمن في ترهل تأسيساته، وفي غياب التواصل ما بين ما هو نظري واجرائي، إذ تتحول لعبة الكتابة النقدية الى ممارسة تقوم على التفسير، أو على عزل النص عن شفراته المعرفية، والاكتفاء بتوصيف النص المنقود على اساس ما يحوزه من دلالات، أو من استعارات، دونما بحثٍ عن مستوى آخر، يخصّ ما هو معرفي في صيغته الفلسفية أو في صيغة معرفية أخرى.
خطاب النقد، أي ما يؤسس عبر القراءة يتطلب شيئا من الفهم، والفهم هنا هو جوهر التأويل، والذي يفترض من الناقد نوعا من الاستقصاء الذي يخص معرفة علاقة الاشياء داخل النص، وباتجاه يجعل من خطاب النقد يذهب الى مجال المعرفة والكشف، والى اعتبار النص «ظاهرة ادبية» لها شروطها وعلائقها، ولها توصيفها، وتناصاتها، وهو ما يعني تجسير علاقتها بالفلسفة، حدّ أنّ نقد تلك الظاهرة الادبية سيبدو قاصرا دون اسانيد فلسفية، ودون الانهمام بالأفكار وفواعلها، والتي هي مجال الفلسفة، ومشغلها المفاهيمي، بما فيها المفاهيم التي تخصّ اللغة ذاتها، فما بعد علم اللغة الدوسوسيري لم يعد هناك من مجال لتشظية الدرس اللغوي، الى نحو وصرف واستعارة وبيان، بل صار الأمر يخص التوصيف والتحليل والتركيب والتدليل، فضلا عن التأويل كإجراء معرفي، والذي ينهل من عالم اللغة وتداولياتها مفاتيحه السحرية، وحمولاته التي تكشف عن الافكار ذاتها..
التعرّف على ماهية النص عبر النقد ستظل عملية محفوفة بالخطر دون الوظيفة المعرفية، إذ تفترض هذه الوظيفة مقاربات لمعرفة الزمن والمكان في النص، وعبر معرفة وظائف الشخصيات داخل وحدتي الزمن والمكان، لصياغة الاطار النصي للحدث الذي يقوم عليه أي نص أدبي، وهو ما يعني تنشيط ما هو تواصلي، أو علائقي بين الوظائف والشخصيات، ولجعل فعل التأويل والفهم يربطان بين الحقيقة التي يُعبّر عنها الحدث، وبين الحقيقة السردية التي تصنعها الشخصيات عبر الوظائف والافعال والتخيّلات.
الاستناد الى اللغة يتسع مع اتساع الوظائف، ومع اتساع الدلالات والافعال التي تمثلها، وأن الجهد الفلسفي هنا هو القوة الدافعة التي ستعزز قيمة الشخصيات في العمل النصي، وكذلك قيمة الخطاب الذي تصنعه، فضلا عن توسيع مديات المنظور، وهو ممارسة تقنية تتبدى عبرها مستويات العمل النصي ورؤيته، وكذلك العمل النقدي الذي يستعين بالمعرفة لا غناء كشف ذلك المنظور وزواياه، ولإسناده في تقانات الحفر في ابنيته العميقة، فهما أو تأويلا، ولإعطاء اللغة التي تصوغ الفعل الادبي قيمة انزياحية، يغتني فيها فعل التواصل بالمعرفة، وبالأفكار التي يبثّها، وهو ما يُفقد اللغة حياديتها، ليس بجعلها تابعة لما هو نصيّ، بل لإبراز فرادتها، لأنّ الافكار ستؤدلجها، أو أن الناقد أو الكاتب سيجعل من موضوع الفهم وتحقيقه مجالا يدفع الى شخصنة فعل التأويل، والى التعاطي معه عبر ما يؤسسه القارئ من توصيفات، ومن لبوس تجعل من أي نص مكتوب أو مقروء وكأنه نصٌ يخص القارئ لوحده، لكنه ايضا ليس أيّ قارئ، بل هو « القارئ العمدة» كما سمّاه رفاتير.
علي حسن الفواز