حسين محمّد عجيل
الانتقال المدهش للنقاش الحيويّ والجدل الحادّ بشأن تعديل قانون الانتخابات، من الأروقة المعتمة للطبقة السياسيّة، المتخمة بصفقات مشبوهة وبكلّ ما لا يبني وطناً، إلى أوساط المواطنين جميعاً، على تباين مهنهم وتوجّهاتهم، واختلاف أعمارهم ومستوياتهم التعليميّة، كان من بعض ما أثمر عنه الحراك السلميّ المتواصل لشباب العراق وشابّاته، ومن جذبوا إليهم من حشودٍ مليونيّةٍ اتحدت معهم جسداً وروحاً، في ساحة التحرير وميادين غالبيّة مدن العراق الأخرى.
وهذا تطوّر كبير في الوعي المجتمعيّ، يُنتظر منه أن يسفر عن نتائج كبرى، ستغيّر أوضاع البلاد على نحو غير متوقّع، بعد أن أصبح هذا الحراك علامةً تأسيسيّةً فارقة للأبد بين زمنين، وفاصلةً بين عراق الأمس وعراق المستقبل.
وتأتي مقالتي هذه في إطار تخصيب هذا النقاش العامّ، وقد حاولت فيها التركيز على أبرز النقاط المهمّة التي ينبغي للقانون الجديد أن يضمنها، بما يحقّق مطالب شبابنا وشابّاتنا من المتظاهرين المعتصمين السلميّين الذين مثّلوا شعبهم على نحو مشرّف، وبما ينسجم مع مبادئ العدالة وتكافؤ الفرص وسيادة القانون، ولا يتعارض مع روح موادّ الدستور النافذ.
إنهاء احتكار التمثيل البرلمانيّ
لقد اعتادت غالبيّة قوى الطبقة السياسيّة وأحزابها وكتلها وتيّاراتها في الدورات الانتخابيّة الأربع الماضية، على صياغة قوانين انتخابيّة مفصّلة على مقياس مصالحها الضيّقة الأفق، تعتمد فيها نظماً انتخابيّة تحقّق لها مبتغاها، لمواصلة احتكارها غير المشروع للتمثيل البرلمانيّ ومناصب الدولة كلّها، وحجب فرص وصول الطاقات والكفاءات السياسيّة العراقيّة المستقلّة إلى قبّة البرلمان وسدّة الحكم. ولم تكتفِ باعتماد هذه الأنظمة، بل عمدت إلى تشويهها بإجراء تعديلات مجحفة كثيرة عليها لتناسب جشعها، ولكي تحصل حتّى على أصوات المقترعين لغيرها من المرشّحين المستقلين والأحزاب الصغيرة، ففقدت العمليّة الانتخابيّة بذلك قيمتها وهدفها، وأُفرغت من محتواها الديمقراطيّ.
هذا فضلاً عن استخدامها المال السياسيّ وتوظيف مقدّرات الدولة وكلّ أساليب الترغيب والترهيب في الدعاية الانتخابيّة، وسعيها المحموم لاستغلال المنابر والشعارات والشارات الدينيّة والطائفيّة والمذهبيّة والعرقيّة والعشائريّة، وشنّها حملات التضليل لاستهداف الخصوم والنيل منهم بكلّ السبل.
ولم تكتف بتلك التجاوزات أيضاً، بل عمدت كتُلها وأحزابها الكبيرة، إلى تقاسم المناصب العليا في المفوضيّة العليا المستقلّة للانتخابات، مع أنّ الدستور، بحسب المادة (102) منه، ينصّ على أنّها يجب أن تكون هيئة مستقلّة. كما أخذت تتقاسم كلّ ما تستطيع من المناصب الوسطى وحتّى الدنيا في مكاتب هذه المفوّضيّة المنتشرة في عموم العراق، ومحاولة توظيف هؤلاء في عمليّات التزوير والاستحواذ الكبرى على الأصوات التي جرت في كلّ الانتخابات السابقة، باعتراف بعض زعماء هذه الكتل والأحزاب والمتحدّثين عنها على بعض. حتّى وصلت عدم ثقة المواطنين بأيّة انتخابات من هذا النوع إلى مستويات غير مسبوقة، عبّرت عنها نسب المقاطعة الواسعة لانتخابات 2018، التي شهدت حالات تزوير وتلاعب هائلة ولا يمكن التستّر عنها، واضطرت للاعتراف بها غالبيّة قوى الطبقة السياسيّة، وهي التي أفرزت البرلمان الحالي وحكومته المستقيلة جبراً.
دوائر متعدّدة بترشيح فرديّ
ولتفادي هذه التداعيات الخطيرة على مستقبل البلاد، يجب أن يضمن تعديل قانون الانتخابات أن يكون العراق مقسّماً إلى دوائر متعدّدة بحسب الكثافة السكانيّة وبالترشيح الفرديّ، وهذا الرأي هو الأنسب للعراق حاليّاً من بين كلّ ما طرحه المختصّون مؤخرّاً من آراء، على أن يكون عدد الدوائر بعدد المقاعد في مجلس النوّاب التي أوجبها الدستور إلى حين تعديله لتخفيض عددها، بحيث تفرز كلّ دائرة مَن يحصل على أغلبيّة الأصوات الصحيحة من المترشّحين للانتخابات فردياً، (أو الحاصل على نسبة 40% من الأصوات). وفي حالة عدم حصول أيّ مرشّح على هذه النسبة من أصوات الدائرة يتمّ اللجوء إلى دورة انتخابيّة ثانية يتنافس فيها المرشّحان الحاصلان على أعلى الأصوات، ليحصل الفائز منهما على المقعد النيابيّ عن تلك الدائرة.
ويمكن- عند سنّ هذا القانون- الاستفادة من نصوص بعض التشريعات العراقيّة في العهود السابقة، التي تقدّم بعض الحلول الجيّدة لبعض الحالات المتوقّعة الحصول، ومن بينها بعض نصوص «المرسوم السادس لانتخاب النوّاب» الصادر في العهد الملكيّ يوم 16/12/1952، الذي اشترط إعادة إجراء الانتخابات خلال سبعة أيّام، في أيّ دائرة انتخابيّة، اذا لم يتمكّن أيّ مرشح فيها من الحصول على 40% من الأصوات الصحيحة.
الحقوق الدستوريّة للمرأة
وعقب القيام بفرز المرشّحين والمرشّحات الفائزين بأغلبيّة الأصوات في دوائر كلّ محافظة، يمكن ضمان الحقوق الدستوريّة للمرأة- التي أوجبها البند (رابعاً) من المادة (49) من الدستور- باحتساب ما جمعته النساء الحاصلات في الدورة الأولى من الانتخابات، على أعلى الأصوات من الدوائر الانتخابيّة في كلّ محافظة، ووضعهنّ في قائمة واحدة متسلسلة بحسب الأصوات، على أن تنال منهنّ الحصّة المتبقيّة للنساء من المقاعد البرلمانيّة المخصّصة للكوتا النسويّة، الحاصلاتُ على المراكز الأولى على مستوى كلّ محافظة، ليكون التنافس منحصراً بين المرشّحات فقط على مستوى المحافظة كلّها، ولضمان وصول سيّدات مرشّحات حقّقن أعلى الأصوات فعلاً.
بمعنى أنّ النساء المرشّحات لا يحتجن للدخول في دورة انتخاب ثانية حاسمة فيما بينهنّ، ويكون التنافس بينهنّ في الدوائر داخل محافظاتهنّ، وتأخذ الأوليات في التسلسل على المحافظة- على اختلاف دوائرهنّ- مقاعد الكوتا، بغضّ النظر عن نسبة الإقبال في كلّ دائرة ينتمين لها.
وهذه الطريقة وإن لم تكن مثاليّة تماماً، فإنّها متقدّمة كثيراً على ما كان معمولاً به في الانتخابات السابقة، التي وصلت فيها مرشّحات كثيرات إلى البرلمان بعدد أصوات محدود جدّاً ربّما وصل لأقلّ من خمسمائة صوت، وعلى حساب مرشّحين حصل بعضهم على ما يقارب العشرين ألفاً. كما أنّها أكثر إنصافا للمرشّحين للذكور فيما بينهم؛ لأنّها تمنح الأعلى أصواتاً منهم على مستوى المحافظة، فرصة المشاركة في الدورة الثانية الحاسمة مع المنافس الثاني له في دائرته.
التنافس في دورة ثانية
وبعد أن يتمّ تحديد المرشّحات من النساء الفائزات بالمقاعد المكمّلة للكوتا النسويّة وفق العدد المحدّد في كلّ محافظة، يجري ترتيب المرشّحين الذكور المتبقّين الفائزين بأعلى الأصوات من الدوائر الانتخابيّة في كلّ محافظة، ممّن لم يحصلوا بعد على مقاعد، ووضعهم في قائمة واحدة متسلسلة بحسب أعلى ما حازوه من أصوات في دوائرهم المختلفة، ومن ثمّ يتم فرز العدد المحدّد المطلوب من أعلى القائمة، ليتنافس كلّ واحد منهم في دائرته مع المنافس الثاني له في الدائرة نفسها، في دورة ثانيّة حاسمة تقام في دوائر المحافظة المتبقيّة كلّها في توقيت واحد، يفوز في كلّ منها بمقعد نيابيّ الحاصلُ من المرشّحَيْن المتنافسَيْن على أغلبيّة الأصوات، وهكذا مع الآخرين، حتّى يُستكمل العدد المطلوب في المحافظة.
تمثيل الأقليّات
كما ينبغي ضمان التمثيل العادل للأقليّات في هذه الدورة، بحسب البند (أولاً) من المادة (49) من الدستور، كمدّة انتقاليّة لحين إجراء تعديل على الدستور يضمن تشكيل أحزاب وطنيّة غير طائفيّة أو دينيّة أو قوميّة، مفتوحة الانتماء للجميع. ويمكن تخصيص دوائر على مستوى المحافظات أو العراق كلّه لضمان تمثيل هذه الفئات وغيرها بحسب ما تسفر عنه المداولات والنقاشات التي يجريها متخصّصون وخبراء مستقلّون في إعداد هذا القانون.
ويجب أن يضمن القانون أيضاً وبما لا يخالف الدستور، حظر حقّ التّرشح للانتخابات لمزدوجي الجنسيّة، بوصف النيابة عن الشعب في البرلمان أحد المناصب السياديّة التي قضى البند (رابعاً) من المادّة (18) من الدستور، بأن لا يتولّاها مزدوجو الجنسيّة، وكذلك للمستولين على عقارات الدولة مهما كانت مناصبهم، سواء كانوا شاغلين لها بالإيجار بأسعار بخسة أو بالشراء بأسعار تفضيليّة، مستغلين في ذلك مواقعهم الرسميّة أو نفوذهم أو سلاحهم، أو بتزوير الوثائق أو بالرشوة أو بالتجاوز وتحدّي القانون، ولا سيما أولئك الذين لديهم مناصب تنفيذيّة من ذوي المناصب العليا والدرجات الخاصّة، استنادا إلى المادة (127) من الدستور، التي قضت بأنّه «لا يجوز لرئيس الجمهوريّة، ورئيس وأعضاء مجلس الوزراء، ورئيس مجلس النوّاب ونائبيه وأعضائه، وأعضاء السلطة القضائية، وأصحاب الدرجات الخاصة، ان يستغلّوا نفوذهم في أن يشتروا أو يستأجروا شيئاً من أموال الدولة».
تكافؤ الفرص
واستكمالاً لما ورد في الفقرة السابقة، وتحقيقاً لمبدأ العدالة وتكافؤ الفرص بين الجميع، ينبغي أن يُحظر حقّ الترشّح لكلّ شاغلي المناصب التنفيذيّة العليا في مؤسّسات الدولة، من درجة مدير عامّ فما فوق، بالنظر للإمكانات الهائلة التي تتيحها لهم مناصبهم، وبإمكانهم استغلالها في الحصول على أصوات بوسائل الترغيب والترهيب المختلفة، ولما في ذلك من عدم مساواة مع غيرهم من المرشّحين، كما يُحظر حقّ الترشّح لأبناء كبار المسؤولين من مدنيّين وعسكريّين من منصب وزير فما فوق للمدنيّين، من منصب قائد فرقة فما فوق للعسكريّين، تفادياً لاستغلالهم المتوقّع لمناصب ذويهم وإمكانات مؤسّسات الدولة.
وفي هذا الإطار أيضاً ينبغي أن يُحظر حقّ الترشّح للمدانين بحمل السلاح وحيازته واستخدامه بصورة غير قانونيّة، ولمن ثبت أنّه ينتمي للمليشيات المسلّحة متحدّيا الدستور والقانون، وبضمن ذلك شيوخ العشائر الذين كوّنوا لهم أتباعاً مسلّحين من أبناء عشائرهم خلافاً للقانون، بالنظر للحظر الدستوريّ غير القابل للتأويل لوجود مليشيات في العراق، بحسب المادّة (9) من الدستور، في فقرتها (ب) من البند (أوّلاً)، وللقرارات الحكومية السابقة بوجوب حلّها وتجريدها من أسلحتها.
لا لقامعي المتظاهرين
كما يتوجّب منع حقّ الترشّح لكلّ مَن صدر بحقّه حكم قضائي بجريمة قمع المتظاهرين أو التورّط بقتلهم، أو بالإرهاب، أو الفساد، أو الرشوة، أو التزوير، أو استغلال المنصب والتربّح منه، أو تبديد المال العام، أو الإضرار بسمعة البلاد وسلامتها، بمن فيهم الحاصلون على عفو عامّ برغم ارتكابهم هذه الجرائم، وكذلك لمن يُحاكمون بهذه التهم، ومن وجّه له الادّعاءُ العامُّ أو القضاءُ تهماً مسندةً بدلائل بهذه القضايا لحين ثبوت براءته منها.
ويحقّ للمنتمين للأحزاب المشاركة في الترشّح للانتخابات إذا أثبتوا سلامة موقفهم من كلّ ما تقدّم.
ولتفادي كثير من حالات التهرّب من الإدلاء بالقسم النيابيّ، التي يقوم بها بعض الفائزين بمقاعد برلمانيّة بانتظار حصولهم على مناصب تنفيذيّة، أو لشغلهم مناصب حاليّة يرونها أهمّ من التمثيل البرلمانيّ، يتوجّب أن يعدّ كلّ نائب خاسراً مقعده النيابيّ إذا تخلّف عن إداء القسم العامّ مع سائر النوّاب، إلّا إذا كان تحت ظرف قاهر، كأن يقعده المرض تماماً عن ذلك، وبشهادة من طبيب مختصّ.
النيابة أسمى من المناصب
ويتوجّب أيضاً أن يحظر قانون الانتخابات على أيّ عضو في البرلمان الترشّح لأيّ منصب تنفيذيّ، أو تكليفه بذلك، إعمالاً للبند (سادساً) من المادّة (49) من الدستور، الذي قضى بأنّه (لا يجوز الجمع بين عضويّة مجلس النوّاب، وأيّ عملٍ، أو منصبٍ رسميّ آخر»، الذي يُفهم من منطوقه أنّ الأولويّة هنا هي للنيابة عن الشعب، بدلالة البند (خامساً) من المادة (49) نفسها، التي نصّت على الآتي: «يقوم مجلس النوّاب بسنّ قانونٍ يعالج حالات استبدال أعضائه عند الاستقالة أو الإقالة أو الوفاة». والمشرّع هنا صريح في قصر تحديداته على الحالات الثلاث، حين لم يضف للنصّ لفظة (وغيرها)، فضلاً عن عدم إشارته بتاتاً إلى حالة رابعة كتكليف النائب بمنصب رسميّ.
ويُضاف إلى ذلك أنّ الفائزين بمقاعد نيابيّة، يمثّلون دوائرهم المتعدّدة، وقد فازوا بعد دورة أو دورتين، وليس هنالك إمكانيّة لتعويضهم إلّا بإجراء انتخابات جديدة في كلّ دائرة انتخابيّة، وما يترتّب على ذلك من جهود ومبالغ وإجراءات تعطّل الحياة في تلك الدائرة، وتشغل الدوائر الرسميّة والناس عن أداء أعمالهم اليوميّة.