يوسف عبود جويعد
شهدت تجربة الروائي فوزي الهنداوي، تنوع واضح في إختيار الثيمة والافكار والاحداث ونمط وأسلوب التناول السردي، وحسب مقتضيات ومتطلبات كل عمل روائي يقدمه للمتلقي، إبتداءاً من روايته ( رغبات منفلتة) ثم روايته (دفاتر مفككة الاوراق) و( على أمل أن نعيش) و(لعنة كين)، وهو يضع أمامنا في كل نص روائي رؤية فنية مختلفة، أحياناً عن العلاقة العاطفية الساخنة، أو الخيانة الزوجية، أو التفكك الاسري، أو حياة الغجر وما لحقهم من ظلم، وهذا التنوع دليل صحي يؤكد على أن الروائي فوزي الهنداوي، لا يعيد نفسه أو يكرر كتاباته، ويبقى ممسك بفكرة واحدة او ثيمة واحدة او حالة واحدة، ويعيد تكرارها في كل عمل جديد، وأنما يتضح من خلال تجربته السردية، أنه يتابع حركة تطور السرد ويلاحق الحداثة ويقتنص أفكار جديدة في كل مرة، وفي كل عمل روائي، وها أنا أقف امام منجزه الادبي الجديد ( موناليزا بغداد) وإشارة تحت العنوان ( حكاية حب خلف أسوار القصر الملكي) ليقدم لنا حكاية من التاريخ، تاريخ العراق وحضارته وموروثه الشعبي، حكاية وجدها تستحق أن تكون عملاً روائياً إذا ما إضيفت لها بعض اللمسات الفنية التي تدخل ضمن فن صناعة الرواية، مع حضور الخيال الخصب الذي تتطلبه عملية البناء السردي، ولأننا سوف نرحل مع حكاية موناليزا بغداد، وقصة الحب الساخنة والممتعة مع جبوري، وله وجهة نظر في ذلك، لأنه يؤكد بأن السرد ممكن أن يكون جزء من تاريخ البلد، جاء ذلك عبر المستهل الذي إختار فيه مقولات لبعض الادباء الكبار وهم يتحدثون عن أهمية الرواية ومدى ارتباطها بالتاريخ، وأختار منهم (ميلان كونديرا) الذي يقول:
( التاريخ بحركاته، وحروبه، وثوراته المضادة، وهزائمه لا يهمّ الروائي بوصفه موضوعاً للوصف والتشهير والتفسير، فالروائي ليس خادماً للمؤرخين، وإذا كان التاريخ يسحره فذلك لأنه يمثل مصباحاً كشافاً يدور حول الوجود الإنساني ويُلقي ضياءه عليه، وعلى إمكاناته غير المتوقعة التي لا تتحقق وتظل غير مرتبة ومجهولة في الفترات الراكدة، عندما يكون التاريخ ساكناً).
وفي هذا تصريح واضح، ومبرر يمنح الروائي اجازة الدخول في بطون التاريخ وإستخراج هذه الحكاية، لتكون مادة روائية تمنحه الفرصة لإستعراض الحياة الثقافية والاقتصادية والسياسية إبان الحكم الملكي، ثم الدخول الى الأسرة المالكة ونعيش الحكاية، ولكن بأسلوب حديث وبعيد عن الحكايات الشعبية التي كنا نطالعها في حكايات (الف ليلة وليلة)، وإنما مستجزأة من الحياة البغدادية ومطعمة بلغتها ( أي اللغة البغدادية)، حيث ندخل الحكاية من بدايتها، عندما يدخل جبوري مع امه بدرية الخياطة لتسليم الملابس التي خاطتها للاسرة المالكة، وفي تلك اللحظة يتعلق قلب الأميرة بالفتى اليافع جبوري وتعجب به، وتظل تفكر فيه، ومن محاسن الصدف أن مديحة اخت جبوري، هي الصديقة المقربة للاميرة وبمثابة الوصيفة الاولى لها، وكاتمة أسرارها، الأمر الذي جعل الأميرة تبوح بسر حبها لجبوري، مما جعل مديحة تتشجع وتخبر الأميرة ما يجول بروح جبوري:
( – رسام، يحب الرسم، علمه زوج خالتي الحاج سليم الرسم، أتعلمين ماذا طلب مني أن اخبرك؟
- ماذا؟
- قال إنه يتمنى أن يرسم الأميرة، يرسم صورة كبيرة لك، يضعها في إطار ويهديها لك، سألني هل تقبل الأميرة أن أرسمها، اجبته أنا لا أعرف، سأسألها اولاً.
- الله يا مديحة، هذه أجمل هدية فليرسمها حالاً، إذن سأهديه علبة أدوات فاخرة.)ص19 .
وعندما يستلم علبة ادوات الرسم، يرسم جبوري صورة للاميرة يضع فيها كل امكانياته وقدراته الفنية في مجال الرسم، لتكون تلك الصورة هي موناليزا بغداد ويؤطرها بإطار جميل ويقدمها للاميرة، فتعجب بها وتضمها الى صدرها وتقبلها، وتضعها في غرفة نومها، ومن هنا تبدأ رحلة تلك العلاقة الإنسانية النبيلة، فليس من اليسير أن يحب مواطن من عامة الناس أميرة، والأمر الادهى كيف يرتبط بها، وتبدأ نيران الحب تشتعل في نفسيهما، وكل واحد منهما يتوق لرؤية الآخر، فنعيش لحظات مفعمة بتلك العاطفة الجياشة:
( – مديحة، لا أحد غيرك يفهمني ويستطيع مساعدتي، أرجوك أنا إنسانة من دم ولحم، مشاعر واحاسيس، قبل أن أكون أميرة بنت ملك، من حقي أن أحب مثل كل الناس، وأتزوج من أحب، أعرف أن طريقي إليه صعب، شائك، المحاذير عديدة، لكني سأمضي فيه برغم كل الصعاب، لا تهمني الألقاب والمغريات، ما قيمة كل ذلك إن خسرت قلبي ومن أحببته بصدق. أنت شابة مثلي تفهمين معنى أن تحب المرأة، وأية امرأة؟ غريبة، رحلت عن وطنها.) ص 38 .
وهكذا يرسم لنا الروائي ملامح حبكة النص، بالصعوبة التي ستواجه الحبيبين للفارق الكبير بينهما، فهي أميرة بنت ملك، بينما هو ابن خياط، ولايمكن لهما ان يرتبطا وهما على هذه الحالة.
وهكذا فإن الأحداث تسير نحو تأزمها، وتتصاعد وتحتد وتشتد، لنكتشف أن جبوري يعي هذه الصعوبة وعليه أن يكون بمستوى القبول لدى الملك من أجل أن يفوز بحبيبته (موناليزا بغداد)، فيجتهد ويدخل مهنة التدريس، ليصبح مدرس الرسم في القصر الملكي، وتكون الأميرة واحدة من تلاميذه، وهكذا تتطور العلاقة وتشتد حرارة نيران العاطفة بينهما، الا أن الطريق نحو الفوز بالاميرة لازال مسدوداً، لذا فأنه يلتحق بالقوة الجوية ليكون طياراً فيها.
ويستغل الروائي هذه الإنتقالة ليستعرض لنا تاريخ اول سرب من الطائرات يدخل سماء بغداد، ومن الذي كان يقود هذا السرب.
(كادت احياء الفضل، المهدية، والكفاح تخلو من ساكنيها مع تباشير صباح يوم الثاني من نيسان 1931 فقد هب الجميع زاحفين صوب مطار الوشاش.
طال إنتظار وصول ابنهم الملازم الطيار محمد علي جواد الذي يقود مع رفاقه الأربعة اول سرب طائرات قادم من لندن ظل خبر اقلاع سرب الطائرات العراقية محور احاديث البغداديين في البيوت والمقاهي والدوائر لأسابيع: فالرحلة طويلة وشاقة، مرت عبر لندن، باريس، ميلانو، زغرب، اسطنبول، أنقرة، حلب، الرمادي وصولاً الى بغداد) ص 58
وهكذا تدور الاحداث ضمن مسارها التصاعدي نحو التأزم، حيث نشهد احداث ساخنة، منها هروب عزة بنت الملك مع خادمها الايطالي، وحضور العرافة التي اخبرت الاميرة بأنها سوف تتزوج وتنجب طفلين، ثم تغادر العراق بعد أن تشهد مجزرتين دمويتين وتموت بالغربة، ونشهد أيضاً تحرك جبوري، الذي يطلق عليه الآن عبد الجبار الطيار، الذي يتوسط العقيد محمد علي جواد، من أجل مفاتحة صدقي باشا ليحدث الملك بنيته بالزواج من الاميرة (خديجة)، وتنجح المهمة وتتم مراسيم الزواج، وتجلب الاميرة هديتها لحبيبها وهي صورتها التي رسمها(موناليزا بغداد)، وكما توقعت العرافة وقد صدقت نبؤتها، فأن الاميرة تنجب لجبوري طفلتين جميلتين، وتدور أحداث داخل الاسرة المالكة وتحدث مجازر كبيرة، فتهرب الاميرة مع زوجها:
( – آسف سيدتي هذا ما اراه، لا اريد أن أكذب عليك. إستأنفت المرأة كلامها: حولك حساد كثر، وأعداء أكثر، شخصان فقط يحبّانك، رجل وإمرأة، ستتزوجين قريباً، وترزقين بطفلين، أحدهما يحمل إسم عزيز عليك، فرحك لن يستمر طويلاً، سترحلين بعيداً في أرض الله الواسعة، هناك، بعيداً في الغربة، تموتين وحيدة، لا اهل ولا أحبة، لن تعيشي طويلاً، سترحلين في منتصف العمر)ص 81
وتتحقق نبؤة العرافة، وتموت الاميرة في الغربة، لتنتهي حكاية موناليزا بغداد وبهذا يحقق الروائي فوزي الهنداوي نقلة موفقة في عالم فن صناعة الرواية بإختياره لحكاية من التاريخ وتقديمها للمتلقي، بإسلوب جديد يختلف على ما اعتدنا عليه من منجزات ادبية روائية قدمها الروائي.
من إصدارات دار اس ميديا للطباعة والنشر والتوزيع لعام 2019