علوان السلمان
ـ الجراة لا نقصد بها التمرد، بل مواجهة المجتمع بعيوبه..
الكتابة، نوع من ممارسة الحرية على حد تعبير سارتر، والكتابة النسوية هي توظيف الادب كأداة للاحتجاج على الاوضاع الاجتماعية والسياسية والتربوية) وهذا يعني انه يتبنى موقفا خلاقا.
الكتابة، مسؤولية بين الكاتب وذاته باعتبارها ممارسة تتجاوز المألوف والواقع، كونها فعل جريء يعلن موقفا من الوجود فيسجل حضوره على معبر الحياة، باعتبار الجرأة مكون نصي يعبر عن حالة نفسية، انفعالية مشحونة بتيار ابداعي واع عبر خيال خصب ولغة سليمة بعيدة عن التقعر، تقرر الانتماء الى مساحة الابداع الذي هو شرط الكتابة والسعي الى تحقيق حالة قصوى من التشخيص عبر فضاء الكتابة الابداعية المحتضنة لكل الاحتمالات والممكنات وما توارثنا عن الذاكرة الجمعية.
والمرأة كقيمة ثقافية على حد تعبير عبدالله الغذامي.. كتبت عن مأساتها الحضارية وحرمانها من حقوقها الانسانية متمثلة في حقوقها اللغوية، لان الابداع لا يولد الا في احضان اللغة، والنماذج الابداعية النسائية على مستوياتها واختلافاتها شاهدة على حرية الكتابة.
فالكــتابة النسائية بتنــويعاتها ومحــمولاتها المتفـجرة فرصة للانصهار الوجودي بدلالته الانطولوجية التي لا تتحقق كينونتها الا بالانخراط في مجال الحياة الابداعية كخيار اولا واخير، لذا فالحديث عن الجرأة التي هي التعبير عن الفكرة وفق آلية فنية توافقية تتمثل بتوفر روح المبادرة للتعبير عن الافكار والمشاعر، وهذا يعني ان التابو هو (الانا) لا الثلاثي المحظور (الجنس والدين والسياسة) كما يقال..
لذا يتوجب على المرأة ان تكتب عن ذاتها ثيمة ولغة اولا لكي تعيد حقها الاعتباري باعتبارها معطى انسانيا يتميز بخصوصية بايولوجية وفيزيولوجية يمكن اعتبارها المادة الخام لنحت الكلمات والصور، فتقاوم كما قاومت شهرزاد الموت المحقق بفعل غواية الحكي، وبنيلوب من خلال تفكيك خيوط نسجها خلاصا من الراغبين في احتلال مكان زوجها(اوليس) الذي طال غيابه.
اذ ان مواجهة الكاتبة لنفسها في طرح ما تكتمه بأسلوب فني ابداعي تختاره في الكتابة هو ذا مقياس حرية المبدعة، الخاضع للرقيب الذاتي الواعي الفاعل كبوصلة سرية للمبدعة كي تقدم نتاجها بحرية واعية للضرورة، من اجل التأسيس لإشتغالات كانت متوارية قبل عقود من الزمن..والاحتفاء بالذات المتجاوزة فعلا..كون الكتابة النسائية ثقة مطلقة لمنهج الخصب المتجدد، الذي اكده الدكتور عفيف فراح في كتابه (ادب المرأة)..متخذا من (ليلى بعلبكي وسميرة عزام وليلى نصر الله وغادة السمان وحنان الشيخ وبثينة الناصري وديزي الامير وحميدة نعنع ونوال السعداوي..) انموذجا لصورة المرأة المبدعة، اذ يقول(ان المرأة الجديدة تبدعــها الحرية..ولحــظة الفعل والثــقافة التي تستــجلي الجوهر العقلي الذي تتكشف عنه التجربة الحسية..) ويضيف قائلا (ان العمل الفني هو الفعل المبدع الذي يعيد صياغة التجربة الجمالية..)ومن هنا يصبح محـققا لغرضين: اولهـما مـرآة تعـكس التجـربة الواقعية بحدودها ودرجة غناها، ومن جهة اخرى يتيح رؤية المرأة في لحظة الفعل المبدع الذي يخصب عقليا لا بيولوجيا..
اما الحديث عن المسكوت عنه فانه لا يصدر الا عن مبدعين ومبدعات تشربوا قواعد الادب واحترموا القيم الجمالية، كونهم يقدمون هذا بلغة شفيفة ضمن سياقاتها الموضوعية والتربوية..
وبتأمل المشهد الثقافي من وجهة نظر التراكم الكمي والكيفي على مستوى انتاج المرأة الابداعي نجد ان السرد الروائي يتصدر المشهد الذي خطته(ليلى البعلبكي)في روايتها(انا احيا)1958 كنقطة انطلاق لأدب نسوي يتميز بالرفض والاحتجاج فيمثل ثورة ادبية نسائية في وجه المجتمع الذكوري، لما تحمله هذه الرواية من جرأة نقدية لاذعة وافكار وهموم مضافة ..وموجزها(تقع لينا فياض بطلة الرواية في حب بهاء الطالب العراقي الذي يدرس في الجامعة الامريكية ..فهو مناضل في الخامسة والعشرين وتعيش معه حالا من الصراع الداخلي، تلتقيه في مقهى(العم سام) حينذاك في منطقة راس بيروت وتداوم على لقائه..لكن العلاقة تنتهي سلبا وهجرانا ويأسا وقد اكتشفت فيه وجهه الاخر، الوجه الذكوري التقليدي الذي ينظر الى المرأة مثل بقية الرجال الذين تكرههم، فضــلا عن انها ترفض ان تعامل حسب مقاييس الجمال الانثوية ..لذا فالكاتبة تخبر في المستهل عبر (لينا فياض) التي تتولى فعل السرد وتؤدي دور الاناـ الراوية (انها قصت شعرها الجميل في موقف عدائي من (الانظار) التي يلفتها هذا الشعر(لمن الشعر الدافيء المنثور على كتفي؟ اليس هو لي.. ألست حــرة في ان اسخــط عليه)..وعبارة (الست حــرة) هــذه تتــردد في الرواية كممارسة لفعل الحرية…
لقد سجلت (ليلى بعلبكي) في (انا احيا) لغة فتاة نزحت من جنوب لبنان الى بيروت وتمردت على منظومة اجتماعية تقليدية وهي تتحدث عن الجسد المقموع بحثا عن الحرية.. اذ لم تجد(لينا فياض) بطلة الرواية في تعبيرها عن تمردها سوى جسدها لتمارس حريتها من خلاله..
رواية (انا احيا) شخصت بشكل حداثوي مجدد في التعبير الواعي المغلوط للرجل والمراة في الخمسينيات نتيجة فصلهما بين حرية الفرد والجسد وبين الالتزام السياسي المسقط من حسابه حرية المراة وكينونتها..
ومن ثم توالت الاصدارات التي اسهمت في تفجير المكبوت من خلال هيمنة حضور البطل الانثوي الرافض للموروث والثائر على البيئة التقليدية.. وبسبب رغبة المراة في خلق فضاء من البوح الذي يخرجها من المآزق الضيقة والعوائق التي تكتنفها..من اجل اثبات الذات وتوسيع هامش الحرية.. اذ اتجهت الاعمال السردية النسائية الى اظهار عوالمها الذاتية والاجتماعية وشحن شخصياتها بطاقة لغوية ونفسية ودلالية راسمة بذلك تفاصيل معاناتها ومشاكلها التي ولدتها تعقيدات الحياة وتغيرات المجتمع.. فشكل السرد النسائي فضاء خصبا عبرت من خلاله المراة عن خصوصيتها النفسية والوجدانية ودانت فيه بعمق وجراة مختلف التصورات التقليدية الموروثة من خلال التراكم السردي المتمثل في الرهانات الموضوعية وبانفتاحه على كيان المراة بابعاده الجنسية والنفسية وعلى القضايا الوطنية..فحققت طفرات مهمة واضافات نوعية ملموسة على مستوى البنيات والتقنيات الفنية والمعرفية..الامــر الذي اســهم في انضاج الكتابة الســردية عــموما والنــسائية خصــوصا من خــلالتوظيف الجسد والنبش في خباياه وتفاصيله سواء ما يخص الذات او الاخر..
(رحت استعيد انفاسي..اتنبه للثوب الذي اتصبب تحته عرقا..وانا اراه يخلع جاكيته..يشعل سيجارة..ويجلس على تلك الاريكة لاحتساء قهوة..
عاودتني اسئلتي وانا انظر اليه..كما تقرأ غجرية الكف.. رحت اقرأ هيأته بحدسي وحواسي فقط..لا تعنيني اللحظة ان اكشف ماضيه بقدر ما يعنيني ان اطالع قدري مكتوبا عليه..قدرا متعب الشفاه..فوضوي الشعر..كسول الكلمات..مربك اللمسات..مباغت القبلات..متناقض الرغبات..كرجل في الاربعين..
يسالني: (فيم تفكرين)؟..
اجيب:احب الرجال في الاربعين..
يبتسم..يرد: ولكنني لست الرجل الذي تتوهمين..
يلقي برماد سيجارته في المنفضة ويمد نحوي يده(تعالي..اجلسي قريبا مني…)
اتردد بعض الشيء قبل ان اعترف(اني اتصبب عرقا..انا ارتــدي هــذه العــباءة منذ ساعات..)..اتــوقع ان يقــول اخلعيها..مثلا..لكنه يقول:وهو يسحبني الى جواره(احب رائحتك..لقد احببت دائما لغة جسدك)..ثم يواصل: وكانه يطمئنني..ان جسدا لا رائحة له هو جسد اخرس..)
فالروائية (احلام مستغانمي) في سردها يتحول االجسد الى شكل هلامي يمد النص بفيض لا شعوري من الدلالات..فهو (يغيب ولا يتلاشى)..اذ انها تستعير الواجهة الامامية المكشوفة للجسد وتستحضر الدلالة الخلفية التي تشكل بها عوالمها المضيئة من خلال المشاهد التي تسهم في تثوير السياق الذهني للمتلقي..