علوان السلمان
القصة القصيرة جدا (اللحظة الغير قابلة للتأجيل)، التي برزت مع حركة الحد الادنى الاميركية التي نادت بـ(كتابة مختصرة لحياة مختصرة) وحركة التجريب المغامرة المتجاوزة المحققة للحظة الوعي المساير للتغييرات الحضارية والحياتية وفق رؤية سردية تجسد الدلالة الايحائية التي تكشف عن اجواء نفسية مستجيبة لنبض الحياة وموجوداتها انها مجموعة من المعايير الكمية الناتجة من التكثيف والتركيز ودقة اختيار الالفاظ من جهة والمعايير الكيفية(الحدث والشخصية والفضاء والبنية الزمانية والمنظور السردي..).. فضلا عن المعايير الدلالية والمقصدية، من جهة أخرى، والتي اسهمت في بناء نص سردي يتماهى والشعرية الوامضة باعتماد التكثيف والايجاز والاختزال الجملي والحذف والاضمار، اضافة الى التصوير البلاغي المتجاوز الى ما هو بياني ومجازي ضمن بلاغة الانزياح والخرق الجمالي، بلغة زئبقية خالقة لمشاهدها الفنية المستفزة للذاكرة المستهلكة، مع محاولتها الامساك بالنسق الحكائي والتوتر الدرامي والحدثي، اضافة الى تميزها بالضربة الاسلوبية الادهاشية المفاجئة..
وباستدعاء المجموعة القصصية (مالك المقبرة) التي نسجت عوالها النصية انامل منتجها القاص كريم صبح واسهمت دار الفؤاد للتوزيع والنشر في نشرها وانتشارها/2018لاتسامها بخصوصية التركيب الجملي المقتصد مع ايحاء صوري وفكرة منبثقة من بين احضان عوالمه الداخلية اضافة الى تركيزها على الهم الاجتماعي، ابتداء من الايقونة العنوانية بفونيميها المشكلان لجملة اسمية مضافة مؤطرة للمتن النص والكاشفة عن محتواه..
(أهالوا التراب علي وانصرفوا، كثر ممن ذرفوا الدمع بصقوا على القبر وغادروا، هالني الامر جارتي الاربعينية هونت علي عندما حدثتني عن الدفان الذي يأتي ليضاجعها في كل ليلة خميس جاري الخمسيني حدثني عن زوجته التي تزوره في ذكراه السنوية من كل عام وتحدثه عن النعيم الذي اورثها إياه في زيارتها الاخيرة شكت له وحدتها وحاجتها الى رجل منحها مباركته بشرط ان تتخلى عن كل أملاكه انقطعت عن زيارته منذ ذلك الوقت جارتي وجاري وغيرهما بأعمار مختلفة حاصروني بسؤال محرج: ما هو سبب البصاق؟ أخبرتهم الحقيقة اشتريت المقبرة مع حرية التصرف بأمواتها عند ذاك حدثني بعضهم عن مشكلات المقبرة مثل عفونة الاحياء وضرورة اقامة جدار عازل بيننا وبينهم.) ص20
فالنص بمجمل تحركاته المشهدية الرامزة ودلالاته اللفظية المعبرة عن الحالة الشعورية والنفسية بأسلوب دينامي حالم وعمق دلالي يتداخل والسياق الجمعي بقدرة تعبيرية ايحائية مجسدة للحظة الشعورية ومبرزة للأحاسيس التي يحققها المنتج (السارد) وهي بمجملها مرتبطة بوحدة موضوعية مختزلة لتراكيبها النصية باعتماد الجزئيات ونسجها نسجا رؤيويا محققا لوظيفته الجمالية والفكرية من خلال الفكرة والعمل داخل اللغة الخالقة لصورها المشهدية الايحائية التي لا تقف عند حد الحدس بل تجسد اللحظة الشعورية التي يحققها المنتج(السارد) وهي مرتبطة بوحدة موضوعية نامية مؤطرة للنص باطار يستوعب حجم معاناته والتصدي للقلق بوعي يتنامى والحس الانساني المجسد للحظة الشعورية من اجل النفاذ الى مكامن الذات والواقع لذا فهو يتفاعل وجدانيا وما حوله من مظاهر الطبيعة ورموزها التي يوظفها توظيفا حسيا وفكريا وفنيا من اجل استفزاز المستهلك (المتلقي) وتحريك خزانته الفكرية لاستنطاق ما خلف المشاهد السردية النابضة بالحياة..
(تمكن ـ بعد صبر ـ من انتزاعها من برجها العاجي لم يزد شيئا على كلمة واحدة همسها بالقرب من اذنيها: أحبك ومضى.
أمعنت في اظهار قوة غير قوتها الحقيقية أطالت مخالب لا تملكها اختلقت شراسة لم تعرفها يوما اندهش من كلمة قلبت كيان امرأة رأسا على عقب شعر انه قد أذنب بحقها أحالها الى امرأة أخرى غير المرأة التي همس في أذنها كلمته الوحيدة قبل شهر لم يكن سهلا عليه ان يقترب منها الى هذا المقدار الذي بلغه في مرته الأولى غامر بحظوظه صادفها خارجة من صالون تجميل حياها راعه ان كل هذا البهاء الذي يقف أمامه تحول الى رعشة تشبه رعشة عصفور بلله المطر في شتاء قارص البرودة سألها عن اضطرابها خالفت توقعاته كلها عندما ردت عليه بصوت لا يكاد يسمع أختنق في أكثر من موضع: أرجوك تجمل بالصبر لم أستوعبك بعد الى لقاء..) ص39
فالسارد يترجم احاسيسه وانفعالاته بنسج سردي يحقق وظيفته من خلال الفكرة والعمل داخل اللغة بدقة تعبيرية متكئة على الفاظ موحية ودلالة مكثفة اضافة الى توظيفه تقنيات فنية واسلوبية محركة للنص كالرمز الذي يسهم في الارتقاء به ونموه تصاعديا واتساع مساحة دلالته التي تجرنا الى قول النفري الصوفي (كلما ضاقت العبارة اتسع المعنى) فضلا عن اعتماده تقانتي الاستباق والاسترجاع والكشف عن الحالة القلقة للمنتج وهو يقدم نصوصا اعتمدت التكثيف بصمت ايحائي باعتماد المتخيل الذي يحمل قدرا من الرؤية التي تعبر عن الوهج الانساني المنبعث من دائرة الوعي.
في نصه يستغرق الحلم ولا تنعزل ذاته عن العالم الخارجي من خلال توظيفه الفاظا مكتظة بالحركة وهي تحمل بين طياتها ثقافة واعية تتكئ على واقعية خلاقة بأسلوب ابداعي يربط جدليا بين الذات والموضوع والمكان ـ الوعاء المعرفي ـ بأسلوب سهل ممتنع يقوم على ضوابط فنية وبنيوية معبرة عن لحظة شعورية خالقة لحقلها الدلالي فضلا عن تحقيقه عنصر الاضاءة السريعة للحظة المستفزة للذاكرة بما تحمله من معنى ايحائي يجرنا الى تشيخوف حين يقول:(ان تجيد الكتابة يعني تجيد الاختصار) بكل ابعاده التي تكشف عن الذات لتحفيز اثرها في ذاكرة الآخر عبر حوار ذاتي(منولوجي) وصور متصفة بصفات دلالية منبثقة من نسيج مكتنز بطاقة ايحائية متمردة على واقع يعيش لحظات الانكفاء وينتمي الى المجال البصري الواقعي مع اعتماد بعض المهيمنات التي تتجسد في البناء المعماري النصي..
من كل هذا نستنتج ان (ملك المقبرة) احتضنت بين دفتيها نصوصا سردية نسجت بمهارة مع قدرة على انتقاء الالفاظ الموحية فضلا عن استنادها على مجموعة من الثيمات والمحاور الدلالية التي تعكس الواقع الاجتماعي المأزوم وتداخله مع المتخيل السردي ومن ثم انصهارهما في بوتقة موضوعية شكلت نصوصا متكئة على لغة ذات مستويات متعددة يجمع بينها الحكاية والتكثيف والايجاز والمفارقة الاسلوبية الادهاشية وفعلية الجملة التي اسهمت في تسريع السرد مع ابتعاد عن الاستطراد الوصفي.