في الليلة ماقبل الاخيرة من رمضان ، كنت ومجموعة من الاصدقاء نتناول طعام السحور في احد مطاعم العاصمة بغداد ، فبقينا هناك الى ساعات الفجر الاولى ، وعند العودة الى البيت ، كنّا نشاهد الشوارع وهي تضجّ بالحركة الكثيفة ، فيما كانت المحال التجاربة التي بقيت فاتحة ابوابها ، تشهد اقبالا كبيرا من قبل الاسر البغدادية لشراء متطلبات العيد ، التي تشمل الملابس والحلويات وسواها ..واستمرت ، بغداد من دون ان تغمض عيونها حتى نهار العيد الاول ، الذي شهدت فيه اسعار «الكاهي والگيمر العراقي» ارتفاعا ملحوظا في معدلاتها ، نتيجة الطلب الكبير ، فكان الرجال يصطفون بفرح ، امام بائعات القيمر ، ليحصلوا على حاجتهم ، ولم يراعِ البغداديون ، وهم يتناولون «الكاهي والگيمر» مشكلات الدهون وارتفاع الكوريسترول والسكري والضغط ، مؤمنين بنظرية (الفرح يقيك المرض)! .. ومما لاشك فيه ان مشهد (الفرح والكاهي والقيمر) الذي شهدته العاصمة بغداد ، كان مشهدا عاما ، في جميع محافظات العراق ، حتى محافظة كركوك التي حاول الاشرار سرقة فرحتها بالعيد عندما فجروا عددا من العبوات في ليلها الهادي الوادع ، فقد تسامت على جراحها ، وصنع الكركوكيون فرحتهم التي يريدون ..
في اليوم الاول للعيد ، كانت لي رحلة مع العائلة الى محافظتي كربلاء المقدسة والنجف الاشرف ، استمرت يومين ، لزيارة بعض الاقارب ، فضلا ، عن اداء مراسم الزيارة للمشاهد المقدسة في المحافظتين ، وعلى مدى اليومين ، وانا انتقل من مكان الى مكان آخر ، كنت اشاهد معالم الفرح واضحة المعالم في وجوه الكبار ، الذين يشاركون الصغار فرحهم العارم ، كان الشعور بالامن والاستقرار ، شاهدا على حركة الناس وفرحتهم ، التي اخذت اشكالا وصورا شتى ، فالبعض توجه لزيارة المراقد المقدسة ، واخرون ، ذهبوا لزيارة الاقارب ، فيما شهدت الاماكن المفتوحة والحدائق العامة والمتنزهات حفلات شواء ، اذ ملأت رائحة «التكة»، ودخان «الكباب» العراقي ، الارجاء .. ليس هذا وحسب ، انما حتى الذين قصدوا وادي السلام في النجف الاشرف ، او وادي كربلاء ، للسلام على احبتهم الذين غادروا ، شهداء من اجل الوطن ، كنت اشعر بامهاتهم الثكالى ، وهنَّ يخاطبنهم ، بلغة عراقية تفيض وطنية ، قل نظيرها ، وكأنهن يخبرنهم ، ان الوطن بفضل دمائكم ظل شامخاً ، مثل نخيله وجباله ، فناموا ايها الابطال ، بسلام ، قريرو العيون ..
وما يمكن للمراقب هنا ، وهو يتابع تفاصيل المشهد العراقي ، الضاج بفرح العيد ، ان يؤشر جملة من الحقائق ، من بينها ، ان الوطن تجاوز النسبة الاكبر من المحنة ، وهو اليوم على اعتاب مرحلة جديدة ، عنوانها صناعة الحياة ‹ وهي الحقيقة الاكثر وضوحا ، فلطالما برع العراقيون في هذه الصناعة ، عبر كرنفالات الفرح العفوية في الاعياد ، وثمة حقيقة اخرى مهمة ، وهي ان مايشهده العراق من وضع جديد ، شعبي واجتماعي ، يؤكد ، سلامة اللحمة الوطنية ، والعراقيون قادرون على معالجة مواطن الخلل التي اصابت تلك اللحمة ، ويمكن ان نشير ايضا الى قضية اخرى ترتبط بالوضع الاقتصادي ، وهو ان المستوى المعيشي للاسرة العراقية ، بدأ يتحسن بعد ازمة خانقة خلال سنوات خلت ، بدليل ، انتعاش السياحة ، واكتظاظ الساحات العامة والاماكن الترفيهية والمطاعم والمولات ، حتى يُخيل اليك ، ان الناس جميعا خرجوا بقضهم وقضيضهم من بيوتهم ، ليعيشوا لحظات الفرح العراقي الجميل ، في اجواء جميلة ، يسودها شعور ايجابي عام لدى الناس ، يختلف عن السنوات الماضية ، وهو الاحساس بالامن ، والاستقرار ..وفي ظل هذه الاجواء العامرة بالايجابية ، يبقى «الكاهي والگيمر» ، هو العلامة الفارقة التي تمهر فرحنا في هذا العيد ، وكل عيد ..
كل عيد والعراق يحلق في اجواء الفرح والسعادة ، وهو يصنع الحياة ، بطريقته الخاصة . وقطعاً ، ان صناعة الحياة ، يحتاج الى مسارات تحدد اتجاهات تلك الصناعة ، ومثل هذه المسارات ، يمكن تحقيقها ، عبر رؤية وطنية ، يتفقد عليها الجميع ..
عبدالزهرة محمد الهنداوي