عندما تتأمل وجه بغداد ساعة الغروب، وترى الشمس كيف تغرق في دجلة، وهي تودع نوارسها، وآخر قبلة مسروقة بين العشاق؛ ستدرك حتماً وأنت تسمع إيقاع قلبك؛ أن هذه المدينة قاومت الموت والظلام لعصور عديدة، هذه المسحة الساحرة من الحزن وهذا الضجيج الصامت المسكون بذاكرة الأزمنة… بنزيفها ووهجها؛ يجعلانك تحلق عاليا ً أو تختفي فيما وراء الأشياء.
الموتى في بغداد لا يرحلون أبدا، إنهم يعيشون حياة سرية معنا، يأكلون ويشربون ويتنقلون من مدينة إلى مدينة، ومن زقاق إلى زقاق، يحبون ويكرهون ويغضبون، لكنهم لا يؤذون أحداً.
في بغداد قد يلتقي محارب سومري عمره خمسة آلاف عام مع طفل يتيم شردته الحرب وابتلعت أهله، وقد يلتقي نبي هارب من الله مع أحد برابرة العصر الالكترونيين، وقد يسافر مجنون على متن عربة لازوردية قادمة من المستقبل إلى الماضي السحيق.
في بغداد الكل يصادق المستحيل ويشرب المعجزات، الكل يبكي عشقاً وهو يذوب في لذة الأناشيد الوحشية والرقصات الوثنية، حتى الشعراء الغامضون الكئيبون يسمعون صدى صوتهم الرمادي منذ الأزل، والملوك ينصبون مشانقهم الأنيقة قبل رحيلهم في ضوء خافت مع قوافل الفجر.
بغداد المدينة التي أحبها الله وهجرها قبل أن تهبط إليها كواكب أورشليم المحترقة، كان يمشط ليلها المجعد بنجومه ويدخل معها في عناق طويل ويبكي على صدرها.
بغداد يا رعشة الخليقة والنواح المعتق، يا أرض المراثي ومهبط الملكوت نامي قريرة العينين في العتمة كي لا يجرح الضوء أحلامك، نامي وافردي جدائلك لريح شقراء، أو لأي غيمة شاحبة فهذه السماء الهرمة لن تسمع أنينك المكتوم ولن ترسل إليك حراسها.
الملائكة ما زالت تحج إليك كل عام، وسادن المعبد السفلي ما زال يردد تراتيله الخفية حتى تصدع النشيد، وصار لون السماء أحمر.
بغداد نامي فالدماء في يديك حناء، والسلاسل في معصميك أساور.
نامي يا عروس الآلهة …
فغداً ستشرق الشمس أيضاً.
أوس حسن