بعض ما وثقته الكاتبة حياة شرارة في كتابها (صفحات من حياة نازك الملائكة)
بدأت نازك تتجه نحو كتابة النثر الابداعي وكانت قد نشرت في مجلة الآداب اللبنانية عام 1958 قصة عنوانها (ياسمين) نالت شهرة واسعة وكانت اول قصة لها مما شجعها على التوجه الجدي نحو كتابة القصة. وفي صيف 1977 كانت تنوي اصدار اول مجموعة قصصية لها وان يكون عنوانها هو عنوان القصة الاولى نفسه (ياسمين) ولكن هذه المجموعة ظلت قصصها متناثرة في بطون المجلات ولم يقيض لها ان ترى النور.
وفي صيف عام 1977 بدأت تكتب رواية وكان بنيتها ان تطلق عليها اسم (ظل على القمر) وتحلل نفسيتها فقد كانت مصابة منذ طفولتها بعقدة نفسية. وتبدأ احداث الرواية في ايطاليا عندما تركب سناء خطا قطار الريف البطيء بدل القطار السريع المتوجه من روما الى نابولي وتحتوي على شخصية اخرى مستمدة من وسطهم العائلي وهي ( ميسون عبد الحميد ) ابنة عم البطلة سناء والتي تخرجت من كلية ديرونت في يور كشاير بإنكلترا وتنتقل احداث الرواية من روما الى نابولي الى القاهرة وتنتهي ببغداد وموضوعها وشخوصها مستمدة من حياة نازك وتمثل البطلة الرئيسية صورة لشخصية نازك في جانب مهم من جوانبها غير ان هذه الرواية التي تقع في ثمانين صفحة لم تنشر ايضا ولو ان هذه الاعمال القصصية صدرت في كتابيين لنازك لكانت لها منزلة اخرى في القصة غير ما نعرفها عليها اليوم .
وتحدثت نازك لأختها احسان عن مجموعة قصصية عنوانها (الشمس التي وراء القمة) وأنها المجموعة نفسها التي كانت تنوي أن تصدرها تحت عنونا (ياسمين). وبدأت تضع كتاباً في النقد الأدبي ليكون تتمة لكتابها المشهور (قضايا الشعر المعاصر).
في تلك الأثناء كانت تنتظر صدور ديوانها (يغير ألوانه البحر). كانت قد انتهت من تصحيح مسوداته في تموز/ يوليو 1977 وانتهى العام دون ان يصدر عن وزارة الاعلام في الجمهورية العراقية ولو أنه كان يحمل بعد صدوره سنه 1977 أيضاً.
كانت نازك تتمنى ان تحال على التقاعد بعد نهاية العام الدراسي 1977. وقد أثار هذه الرغبة الكامنة عندها حصول أختها إحسان على التقاعد، فبعثت لها تهانيها الحارة بهذا الحدث وتمنت أن يسعدها الحظ مثلها بالحصول على الموافقة بإحالتها على التقاعد بعد ان خدمت في الدولة أكثر من ثلاثين عاماً. ونازك تحب الكهولة لأنها سن النضج الفكري والعطاء الأدبي وإدراك الحياة وفهم الناس، بينما يمثل الشباب فترة الاندفاع والحماسة والجهل بالحياة والناس.
ومع حصول إحسان على التقاعد فتح المجال أمامها لتحقيق رغبتها القديمة في الحصول على شهادة الماجستير. فالكهولة عندها ليست نهاية الأماني، وتشاطر أختها نازك في جمال الكهولة، فهي تختلف عن التصور السائد بأنها نهاية عمر العطاء. وبدأت تسعى في هذا المجال، فحصلت على قبول في جامعة أدنبرة ببريطانيا وتمت موافقة مديرية البعثات على سفرها مع زوجها في منتصف حزيران/ يونيو 1977.
كان والد نازك قد ترك لها مجموعة من كتبه تعتز بها رغم أن بعضها ممزق وفي حالة مرضية ولكنها تذكار من انسان حبيب إلى نفسها وفيها ذكريات الشباب. فقد قرأتها مرات في شبابها وتحت إشراف والدها الذي كان يوجهها ويرشدها في النحو وتخف إليه كلما واجهتها مشكلة في هذا الشأن. فكرت في البداية ان تهدي هذه الكتب إلى مكتبة الخلاني في بغداد. ولكن عز عليها ان تفقد هذه الكتب الغالية عندها والتي تمثل جزءاً من تاريخ حياتها وحياة أسرتها ولذلك أبعدت فكرة الإهداء وقررت الابقاء عليها وخزنها في المشتمل الذي تملكه في حي المعتصم.
كانت تشغل بالها المخطوطات التي تركها والدها ولا سيما (دائرة معارف الناس) الضخمة. وقد وعدها أخوها نزار بطبعها في ألمانيا ولكنه لم يستطع القيام بذلك، وعندئذ طلبت أن يستلمها أخوها عصام ويحتفظ بها في بيته إلى أن تواتيها الظروف لطبعها. وقام المجمع العلمي العراقي بتصويرها على شريط بطلب من عضو رئاسة المجمع الدكتور جميل الملائكة.
كانت السنة الدراسية تقترب من نهايتها ومع اقترابها تكثر المشاغل والأعمال الجامعية كوضع الأسئلة ومناقشة رسائل الماجستير والإشراف على بعضها. وكان مكتبها في البيت مثقلاً بالكتب ومئات الأوراق التي عليها أن تقرأها وتعلق عليها. فهناك رسالة ماجستير عنوانها (ابن قتيبة الناقد) وكتبت عليها تعليقات للمناقشة بلغت أربعاً وثلاثين صفحة. وهناك رسالة أخرى تنتظر المناقشة على مكتبها وعنوانها (الثقافة العربية في البوسنة والهرسك) وضعها شاب يوغسلافي مسلم ولا تجد الوقت لقراءتها حتى تنتهي من الأولى. وكانت مسرورة لهذا الموضوع الذي اختاره طالبها اليوغسلافي وأثلج صدرها إخباره لها بوجود أربعة ملايين مسلم في يوغسلافيا يقيمون الشعائر الدينية ويتمسكون بالثقافة العربية.
صادف شهر رمضان في هذه السنة في ذروة الحر أي 15 آب أغسطس 1977. واعتادت نازك ان تصوم رمضان وتصلي فقد كانت شديدة التدين في هذه الفترة من حياتها. وتتحدث عن هذا الجانب من حياتها رداً على سؤال طالب ماجستير سوري يستفسر في ان كانت تميل إلى التصوف فتقول:
((تسألني عن التصوف ولست متصوفة إلاّ إذا كان حب الله العلي القدير يكفي وحده لاعتبار المرء متصوفاً فأنا شديدة الحب له سبحانه وأقضي أوقاتاً طويلة في بعض الليالي أناجيه وأمجده وأتغنى بجماله وروعة خلقه. ولكن لابد لي من القول بأنني لم أكن متدينة في فترات حياتي كلها لا بل انني مررت بفترة إلحاد وتشكك فظيع ما بين 1948 و1955.
وإذا كان التصوف يعني الزهد في الحياة والناس، فأنا بعيدة عنه لأنني أحب الحياة والشعر والأغاني، وأحب عملي في التدريس بالجامعة، وأعزف على العود وأنصرف إلى التأليف وقرض الشعر في حماسة. وهذا كله لا يصرفني عن الدين، وإيماني بالله تعالى كامل عميق يؤثر في شخصيتي كلها)).
إن الإيمان بالله يشعرها بالراحة والهدوء النفسي ويخفف من حدة المشاكل والنكبات والأحزان التي تواجهها، فعين الله ترعاها وتسدد خطاها ولن يتخلى الله عنها في المحن التي تصادفها. وكانت تجد سكينة داخلية كبيرة عندما تقرأ القرآن والأدعية وتبتهل لله.
غير أن الصيام كان متعباً هذه السنة بالنسبة لنازك بسبب الجوع الشديد الذي كانت تشعر به. فقد سبقت حلول شهر رمضان عشرة أشهر من الحمية (الريجيم) البطيء كانت تفقد فيه كل شهر بمعدل كيلوغرام من وزنها. وداومت على ذلك أربعة عشر شهراً متصلة، وتركته في رمضان فقط حتى لا يتعب جسمها.
وجدت نازك نفسها بمفردها لمدة تقل عن عشرين يوماً في الكويت. فقد سافر زوجها إلى القاهرة ليرتاح ويجدد قواه الجسمية، سافر ابنها الوحيد البراق إلى انكلترا وبقيت وحدها في الشقة الكبيرة حيث يسود السكون واصمت التامان. أرادت نازك أن تستغل وقت العطلة هذا في الانتاج الادبي ولذلك لم ترافق زوجها في سفره إلى مصر. وخفف من وحدتها شراء تلفزيون بالتعب من الكتابة ومن النحول الجسمي الذي يسببه الصيام، تأخذ قسطاً من الراحة فتصرف إلى مشاهدة برامج التلفزيون المسلية أو تعزف على العود وتغني كعادتها دوماً.
- كتاب صفحات من حياة نازك الملائكة) ص 209 .