د.ثائر العذاري
لقد كُتب الكثير عن المقامات، لكن معظمه تعامل معها من حقيقة أنها فن تراثي هدفه حفظ اللغة وفنون البلاغة وتعليمها للنشئ الجديد، وقليلة هي الدراسات الجادة التي عالجت المقامات على أنها فن قصصي، ولابد من الإشارة هنا إلى كتاب (السرد في مقامات الهمذاني ١٩٩٨) لأيمن بكر بوصفه دراسة علمية متقنة قاربت المقامات اعتمادا على المصطلح السردي المتعلق بالقصة القصيرة.
وبديع الزمان الهمذاني هو مبتكر المقامات، وكل من جاء بعده قلده حذو النعل بالنعل، فإذا ما استطعنا إثبات أن المقامة لا تختلف عن القصة القصيرة بمفهومها الحديث، يكون الهمذاني أبا القصة الشرعي، ولا محل لما يدعيه بعض أدعياء العلم من نسبة هذا لغيره من مثل ابن الصيقل الجزري أو غيره ممن قلد المبتدع الأول في حكم مجاني من غير آية ولا سلطان مبين.
تتوفر مقامات الهمذاني على كل العناصر البنائية والموضوعية للقصة القصيرة، وأولها القصد، فالهمذاني كتب المقامة بقصد أن تكون نصا تخييليا وهذا ليس بالأمر الهين على ثقافة القرن الرابع الهجري وما قبله التي ترى التخييل ضربا من الكذب، وهذا يفسر ذهاب بعض الكتاب إلى نسبة تخخييلاتهم إلى شخصيات معروفة كما فعل الجاحظ في كتاب البخلاء.
وفي المقامة تبئير كما في القصة، فالراوي المفترض (عيسى بن هشام) هو من يروي الحدث كما رآه، لكنه غالبا ما ينخدع بشخصية البطل (أبي الفتح الإسكندري)، الذي لديه من العلم أكثر من الراوي، وهذا ما اصطلح عليه (تودوروف) الرؤية من الخارج، فالراوي لا يعلم سوى ما يشاهده بالعين ولا يستطيع النفاذ إلى وعي الشخصيات والاطلاع على دواخلها.
وتهتم المقامة بالمكان، فالهمذاني يصور مكان الحدث بدقة (حانوت أو سوق أو مضافة…)، فيصف الألوان ومستوى الإنارة والموقع الجغرافي.
وشخصيات المقامة ليست كشخصيات الأخبار لا نعرف من صفاتها غير أسمائها، فهي شخصيات مبنية بوعي قصصي عبر سلسلة من الصفات والأفعال.
أما عنصر الزمن فالمقامة مثل القصة القصيرة تماما لا تبنى على حبكة زمنية، بل هي تقدم شريحة أو لمحة من الزمن أو ما يمكن أن نسميه الموقف القصصي، فالمقامات عادة تعرض شخصية غريبة تحتال في موقف معين بفصاحتها وبلاغتها لكسب المال من جمهور طرب، وتكون النهاية بأن يكتشف عيسى بن هشام أن هذا هو أبو الفتح الإسكندري متنكرا. ولا يستغرق الحدث كله سوى بضع دقائق.
جاء في أول (المقامة القردية):
«حَدَّثنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: بَيْنَا أَنا بِمَديِنَةِ السَّلامِ، قَافِلاً مِنَ البَلَدِ الحرَامِ، أَمِيسُ مَيْسَ الرِّجْلَةِ، على شاطئِ الدِّجْلَةِ، أَتَأَمَّلُ تِلْكَ الطَّرَائِفَ، وَأَتَقَصَّى تِلْكَ الزَّخَارِفَ، إِذْ انْتَهَيْتُ إِلَى حَلْقَةِ رِجَالٍ مُزْدَحِمِينَ يَلْوي الطَّرَبُ أَعْنَاقَهُمْ، وَيَشَّقُ الضَحِكُ أَشْداقَهُمْ، فَسَاقَنِي الحِرصُ إِلى مَا ساقَهُمْ، حَتَّى وَقَفْتُ بِمَسْمَعِ صَوتِ رَجُلٍ دُونَ مَرأَيَ وَجْهِهِ لِشِدَّةِ الهَجْمَةِ وَفَرْطِ الزَّحْمَةِ، فَإِذَا هُوَ قَرَّادٌ يُرْقِصُ قِرْدَهُ، وَيُضْحِكُ مَنْ عِنْدَهُ…..»
ما نلاحظه في هذا المدخل أن السارد ينزل نفسه منزلة المروي له وينيط السرد براو مفترض، وهذا الراوي هو من يهيء ظروف الحدث بتعيين المكان ووصفه، ثم يدخل في الحدث الرئيس وهو مشهد القراد الذي يخفي وجهه، وواضح أن هذه كانت من المهن المحتقرة في ذلك العصر، لكن المفاجأة تكون في النهاية حين يكتشف الراوي أن القراد ليس سوى صاحبه الإسكندري.
ومثل القصة تصور المقامة حياة الناس العاديين لا الملوك ولا الأكابر، وحين تقرأ مقامات الهمذاني تحصل على قاعدة بيانات ضخمة لحياة الناس وسلوكهم وحاجياتهم ومشاكلهم وتقاليدهم. واللافت أن كل هذا يصور بلغة مبتكرة هي لغة الراوي ولغة البطل اللذين يدعي كلاهما أنه فارس البيان وسيد الفصاحة. فاللغة فيها لغة شخصياتها كما خطط الهمذاني لذلك.
كتب الهمذاني خمسين مقامة أحدثت قفزة في الفن النثري فقلدها الكثيرون حتى مشارف القرن الميلادي العشرين، فضلا عن الشروح الكثيرة التي حظيت بها، لكن ما يهمنا في هذا المقال هو أن الهمذاني كتبها لتكون مشروعا سرديا واحدا تضمه دفتا كتاب. فالقصص كلها مبنية بأسلوب واحد يجعل القارئ يتعامل معها بفكرة الوحدة والتعدد مجتمعين كما في المتوالية القصصية، فكل مقامة هي نص مغلق يمكن قراءته منفردا، لكن قراءة النصوص كلها ستعدل التجربة القرائية وتجعلها مختلفة فريدة.
ترتبط المقامات بنائيا بتكرار شخصية الراوي عيسى بن هشام الذي يعرض في كل مقامة تجربة شخصية تنتهي بمفارقة مدهشة، فضلا عن تكرار شخصية البطل المتنكر أبي الفتح الإسكندري في أغلبها، فبعض المقامات يكون الراوي نفسه بطلها كما في (المقامة الأسدية) التي تصور واحدة من مغامرات الترحل لابن هشام، لكن المهم أن الكاتب جعل كل مقامة قادرة على إضاءة المقامات الأخرى فكل واحدة تقدم معلومات إضافية عن الشخصيات التي ستصبح مألوفة للقارئ يتعامل معها كما لو كانت من أصدقائه منذ المقامة الثالثة.
تشترك المقامات أيضا باللغة، لغة الراوي ولغة البطل، اللتان ستصبحان مألوفتان عند القارئ بما يكفي لبناء أفق للتوقع يتيح للكاتب اللعب عليه لصنع الدهشة في النهاية.
وتمثل عنوانات المقامات رابطا مهما لصنع التوالي، فقد عمد الهمذاني إلى أن يجعل لكل مقامة عنوانا مركبا من كلمة (المقامة) تلحق بها صفة تشير إلى بؤرة الحدث السردي، فـ(المقامة البغدادية) تتحدث عن طباع البغداديين، و(المقامة الأسدية) تتمحور حول تعرض قافلة الراوي لهجوم اسد، و(المقامة الأزادية) تحدث في حانوت يبيع التمر من فصيلة نفيسة تسمى الأزادي، وهكذا يعتاد القارئ الاهتمام بالصفة الواردة في العنوان لأنه سيتعلم أنها محور النص.
مقامات الهمذاني تحفة سردية تحتاج لمن ينفض عنها غبار الزمن لنقول بعدها أن المتوالية القصصية جنس أدبي عربي ضارب في القدم.