إذا كان القرن العشرون قد شهد في سنواته الأولى انفتاح العرب على الآداب الأوربية، إلى الدرجة التي باتوا ينتقون منها ما يلائم أوضاعهم السياسية والاجتماعية، فإن السير في هذا الشوط إلى نهايته مغامرة غير مأمونة النتائج، والاتكاء على ما تفرزه اليوميات الغربية تقليد غير مضمون النجاح. ذلك أن شكل الحياة هناك يتغير بسرعة لا يستطيع العرب مجاراتها بأي شكل من الأشكال. ولا بد لكل نهاية من مقدمات.
وقد أصاب العرب التوفيق حينما استعاروا الرومانسية من أهلها في العشرينات على يد أدباء المهجر (1920) أو جماعة الديوان (1921). لكنها كانت قد شرعت في ذلك الوقت بالاحتضار في عقر دارها. وسر نجاحها في البلاد العربية أنها بشرت بغد جميل وحياة أفضل، ودعت إلى علاقات إنسانية متكافئة، وحرضت الناس على الثورة في عصر الهيمنة الأوربية، التي أعقبت تفكك دولة بني عثمان. فكانت سنوات الثلاثينات والأربعينات والخمسينات حافلة بالإنجازات النوعية. ولأول مرة أصبح لدى العرب في هذه الحقبة المدارس والجامعات والمستشفيات والشوارع والسيارات والمتنزهات والأبنية الشاهقة، وغير ذلك من الأمور التي لم يعرفوها من قبل!
لكن هذه الحركة لم تكمل ما بدأته. فقد كانت تحتاج في منطقة متخلفة كهذه إلى وقت طويل حتى تغرس قيم العدالة والمساواة والجمال والفن واحترام الآخر. استطاعت الرومانسية التي انطلقت في الربع الأخير من القرن الثامن عشر في أوربا، أن تبدد عتمة العصر الفيكتوري، وتقوض الحلف الثلاثي (الملك، الإقطاع، الكنيسة)، وتشعل لهيب الثورة الفرنسية. وكانت أداة فعالة في نشر الحرية وإنصاف الطبقات المسحوقة. لكن مثل هذا الأمر تغير في ما بعد. فقد كان ظهور طبقة الصناعيين والتجار عقب الثورة الصناعية الأولى عام 1840 بمواجهة طبقة الفلاحين والعمال والحرفيين، إيذاناً بوضع كل شئ على طاولة التشريح. وتصوير الأشياء كما هي دون إضافات. وإظهار الجوهر الداخلي للأشياء بغيرما تزيين! وهكذا ظهرت الواقعية بأجلى صورها، وطفقت بالتعبير عن معنى هذا العالم وأزماته الفكرية والإنسانية.
في بلادنا العربية لم يحن الوقت بعد لتبني مفاهيم ما بعد الرومانسية. ولم يأت تيار الواقعية في أوانه. فالأولى لم تحقق أهدافها بعد، ولم تتمكن من زحزحة الاستبداد السياسي، أو تحقيق المساواة بين الأفراد. ولم تتطور فيها نظم الإدارة وبرامج التنمية. ولذا فإن مجرد الإعجاب بالمدرسة الواقعية لا يبرر الالتجاء إليها في مجتمع خال من التصنيع والتقدم العلمي وتراكم الثروة. ولم تبرز فيه النزعة التحررية والقيم الليبرالية.
حتى يمكن إنتاج نماذج واقعية رصينة لا بد من التغيير الحاسم، والتنمية الشاملة. ولا مفر من إحداث ثورة اجتماعية وسياسية، على غرار الثورات العالمية الكبرى. وعند ذاك ستكون الحاجة إلى الواقعية بمختلف أشكالها، أمراً لا يمكن تجاهله. وتصبح الدعوة إلى اعتمادها فكرة مشروعة لا سبيل إلى الاستغناء عنها.
محمد زكي ابراهيم